السودان.. الانقلاب على الثورة

آراء 2019/06/09
...

حازم مبيضين
 
بإعلان الاتحاد الافريقي تعليق عضوية السودان، إلى حين إقامة سلطة مدنية انتقالية، كوسيلة وحيدة لإفساح المجال أمام السودان للخروج من الأزمة الحالية، وأنه يدرس فرض عقوبات على الضالعين في أعمال عنف بالسودان، في حين دعت أطراف دولية عدة إلى الحفاظ على السلم والأمن في السودان، محذرة من الانجرار خلف التوترات، فقد أعلنت الخارجية الروسية تواصلها مع الاطراف كافة مؤكدة رفضها للتدخل الدولي في السودان، وشدّدت على ضرورة كبح المتطرفين حتى يتسنى إجراء الانتخابات في السودان، بعد أن لم يترك جنرالات السودان وسيلة من وسائل البشير، إلا وجرّبوها أو لوّحوا بتجريبها، وصولا إلى التلويح بخطر الفلتان والمؤامرات وأعداء الخارج، وليس انتهاء باللجوء إلى القوة الخشنة لفض 
الاعتصام.
يبدو ان أمل السودانيين والعالم إزاء التوصل لفترة انتقالية ديمقراطية وسلمية قد خاب، بعد فض العسكر اعتصام قيادة الجيش السلمي بعنف، فقد سقطت الأقنعة إزاء انتقال سلمي للسلطة، وظهر أن الجنرالات الذين أزاحوا البشير لم يكونوا جادين ولاراغبين في تسليم السلطة للمدنيين رغم المفاوضات، وأن قائد قوات الدعم السريع “حميدتي” لم يكن ينوي حماية المعتصمين رغم وعده بذلك، وجاء إعلان المجلس العسكري بإنهاء الحوار مع المدنيين وعزمه خوض انتخابات خلال تسعة أشهر، ليؤكد المخاوف من أن تصبح صناديق الاقتراع السلاح المفضل لدى الدكتاتوريين، وذلك كما يحدث في الجزائر، فيما يبدو أن العسكر استعادوا النظام القديم مع تغيير بسيط في رأس البلد، وإن كان الأمر في النهاية متعلقا بمدى نجاح المجلس العسكري في فرض إرادته على جميع وحدات القوات المسلحة السودانية.
وهكذا يبدو أن حكام السودان الجدد، قرروا أنهم باقون على رأس السلطة في البلاد، وأنهم يسعون في بناء قاعدة اجتماعية لحكم مديد، قوامه مليشيات وفئات مهمة، فهؤلاء هم تلاميذ البشير، نشأوا في عهده ولولا ولاؤهم له لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لا يعرفون سوى منهجه في الحكم، وقد خبروا ألاعيبه وأدواته، فقد كانوا جزءاً منها، وأداة تنفيذية من أدواتها، فهم يكذبون حين يزعمون أنهم جزء من ثورة الشعب السوداني، هم قفزوا على أكتفاهم لمنع سقوط النظام، والاكتفاء بإسقاط بعض رموزه، واستبدال جنرال بآخر، وهم يكذبون حين يتحدثون عن زهدهم بالحكم ويعدون بتسليم السلطة لحكومة مدنية، فهم يريدون للسودان أن يبقى في قبضة الجنرالات، وأن يعيد انتاج سيرة كبيرهم ومعلمهم السحر، وهذا ما أدركه السودانيون وإن متأخرين ولكن ليس قبل فوات الأوان.
إزاء ذلك، أكد قادة الحراك الشعبي تمسّكهم بتنفيذ العصيان المدني الشامل والإضراب السياسي، فقد أعاد تهوّر العسكر المشهد السوداني إلى مرحلة احتجاجات كانون الأول المفتوحة في مختلف المناطق ضد السلطة، لكن هذه المرة ضد المجلس الذي يعدّ نفسه جزءاً من الثورة، كونه استجاب لدعوات المعتصمين قبل الـ11 من نيسان بحسم الموقف ضد البشير.
فكما كان الأخير يمدّ يداً للحوار، وبالأخرى يمارس العنف المفرط، يتجه العسكري إلى السياسة نفسها، التي تسمح له بالتسويف والبقاء أكثر في السلطة.
ويشي ذلك بأن العسكر باتوا في الحلقة الأضعف، بينما يُجمع المراقبون، على أن تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير هو الأقوى في الساحة السياسية، كونه المحرّك والمنظّم الرئيس للحراك الشعبي، علماً بأنه ما كان للعسكري أن يستمر في السلطة حتى الآن لو لم تعقد المفاوضات التي خاضها مع التحالف المعارض.
وقد تدفع مغامرة العسكر إلى انقلاب ثالث ضد مجلس البرهان وحميدتي، بتأثير من الضباط الصغار، الذين باتوا يستاؤون من تشوّه صورة الجيش بسبب ممارسات العسكري والدعم السريع.
لقد أسقط السودانيون عمر البشير بعد أن ظن وظنوا أنه باق إلى الأبد، وأسقطوا من بعده الجنرال ابن عوف، واليوم تدخل معركة السودان من أجل الدولة المدنية الديمقراطية، فصلها الثالث، ويهتف السودانيون بشعار تسقط ثالث، وليس أمامهم سوى الانتصار في هذه المعركة، وإلا جازفوا بإخضاع بلادهم لعشرات قادمات من السنين تحت بساطير الجنرالات 
وعصيّهم.
فالثورة المضادة في السودان تكتمل فصولاً، والشعب السوداني لم يقل كلمته الفصل بعد، والديمقراطية لم تضع أوزارها بعد، والمجلس العسكري الذي سمع قادته كلاماً تحريضياً للانقضاض على الشارع، عليه أن يدرك بأن طريقه محفوف بالمخاطر، وأن ثمة غرفاً فارغة مجاورة للغرفة التي يجلس فيها البشير، والسودان في أجوائه الراهنة، أبعد ما يكون عن حديث المصالحات، وأقرب ما يكون إلى تأجيج المواجهات 
والقمع.
الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة، لأن مخطط الثورة المعلن هو الحشد والتعبئة لأضخم تحرك في العاصمة والأقاليم بالتزامن مع الذكرى الثلاثين لانقلاب البشير، ورهانها هو في الحفاظ على سلميتها التي أكسبتها تعاطف العالم، ومنعت السودان من الانزلاق للعنف والأهم من ذلك جعلت الجيش ينحاز إليها في موقف قد يتكرر خصوصاً مع الكلام عن تململ متزايد في صفوفه اليوم مع استمرار مشاهد العنف ضد 
المدنيين.