بمناسبة ارتفاع اسهم اليمين الاوروبي المتطرف في انتخابات البرلمان الاوروبي وحصوله على مكانة القوة السياسية الاولى في فرنسا وايطاليا وبريطانيا ، وبالمقابل دخول اعداد جديدة من النواب المنحدرين من اصول عربية واسلامية للبرلمانات الوطنية والاوروبية، ولاشتداد الصراع بينهما، بدأت القوى الاوروبية المعتدلة بطرح العديد من الاشكاليات التي كانت لسنوات محل جدل واستقطاب وعلى رأسها تعزيز مكانة الاوروبيين من الاصول العربية الاسلامية وترسيخ دورهم السياسي والاجتماعي والعودة لمناقشة عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي.. وليس في وسعنا في هذه العجالة التطرق الى الدور العربي في البناء التشريعي والسياسي الاوروبي وسنعالجه في مقالة لاحقة، لذلك سنعالج القضية الثانية التي اصبحت على ما يبدو قضية ملحة بعد ان بدأت ملامح تصدع جبهة الغرب بفعل سياسات الرئيس الامريكي ترامب وابتعاد تركيا عن امريكا وتقربها من اوروبا. وبهذه المناسبة تدعونا اقلام كثيرة عربية واجنبية للاستفادة من النموذج الاوروبي الذي وحدته المصالح المشتركة والتمتع بنعمتي الديمقراطية والمواطنة.. ونحن نتساءل هل وحدته المصالح ام الديمقراطية ام توحد بفعل الاثنتين معاً ؟ وايا كانت الاجابة فلنا ان نلاحظ ان مسيرة تركيا قبل الانقلاب الفاشل في العام2016 الخاصة بتبني النموذج الاوروبي في الديمقراطية والمواطنة والعمل وفق لوائح حقوق الانسان كانت في تقدم مستمر. وهذا التقدم الذي احرزته تركيا بشهادة المنظمات الدولية في مجالات حقوق الانسان والاقلية الكردية، قضية الأرمن، العلاقة مع اليونان وقضية قبرص، إبعاد المؤسستين الدينية والعسكرية عن السياسة وشؤون المجتع المدني. كان اكثر مما حققته دول اوروبا الشرقية مثل التشيك ورومانيا وبلغاريا وكرواتيا ومقدونيا وبولونيا التي ما زال اغلبها يتعامل بعنصرية ازاء مواطنيها من الغجر. وكل هذه الدول- حسب تقارير منظمات الامم المتحدة- تعمل بقوانين ومعايير وسياسات متناقضة مع حقوق الانسان
والديمقراطية .وأمثلة ذلك عديدة في التقارير الدولية فاستناداً الى رئيس منظمة مراسلون بلا حدود كريستوف دولوار فإن “الكراهية ضد الصحفيين من أخطر التهديدات للديمقراطيات”ويشير في تقرير منظمته الى مظاهر خطيرة ضد الديمقراطية في بلدان اوروبا الشرقية مثل ظهور رئيس تشيكيا ميلوش زيمان فى مؤتمر صحافي بسلاح كلاشينكوف زائف مكتوب عليه “للصحفيين”، ووصف زعيم سلوفاكيا السابق روبرت فيكو صحفيات وصحفيين “بالعاهرات القذرات المعاديات لسلوفاكيا” و “الضباع الأغبياء”.
وقد مورست التفرقة العنصرية ضد الغجر باستمرار في بلغاريا والتشيك ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وصريبيا وادانتها منظمات الامم المتحدة ومنظمة العفو الدولية. فضلاً عن خروقات حقوق الانسان في استونيا وحرمان 100الف من الناطقين باللغة الروسية من الجنسية، وبولندا التي تضم معسكرات اعتقال امريكية منافية للقوانين الدولية . ناهيك عن العنصرية في مجال الرياضة حيث قدم الاتحاد الدنماركي لكرة القدم شكوى للاتحاد الدولي (الفيفا) ضد الهتافات العنصرية في تصفيات كأس العالم 2014 وسبق ان عاقبت الفيفا الاتحاد البلغاري بغرامة مالية قدرها 40 ألف يورو بسبب إساءة عنصرية من مشجعين أثناء مباراة ضد انجلترا في تصفيات بطولة اوروبا في العام2012. وتراجعت مالطا 18 مرتبة بعد اغتيال الصحافية الاستقصائية دافنه كاروانا جاليزيا.ومع ذلك فدول اوروبا الشرقية تلك دخلت مرحباً بها الى الاتحاد الاوروبي بينما رفضت تركيا التي تقدمت للانضمام للجماعة الاوروبية منذ العام 1959 ثم اعلن عن قبول ترشيحها في العام 1999 لكي تنضم بشكل نهائي في العام 2005 ولكنها رفضت قطعياً على الرغم من عضويتها في المجلس الاوروبي وعضويتها في الحلف الاطلسي منذ تأسيسه، واعتبارها الحليفة الوفية للغرب منذ قرابة قرن من الزمان !! فلماذا
رفضت؟
والسؤال الثاني الذي يثيره هذا الامر هو : ما المعيار المعتمد في سياسات الدول الديمقراطية هل هو معيار ضمان الحقوق الانسانية الذي نصت عليه مجموعة كبيرة من العهود الدولية؟هل هو الالتزام بمعايير المواطنة؟ هل هو مجموعة من المصالح والمنافع؟ هل هو التحالفات الامنية والعسكرية ام هو غير هذا وذاك، فما هو اذن ؟ إن تجربة تركيا مع دول الاتحاد الاوروبي “الديمقراطية” تدلنا على ان المعيار تجاوز كل تلك المحفزات على القبول، فتركيا كانت سائرة بوتيرة متسارعة في طريق تطبيق المواثيق الدولية في ميدان حقوق الانسان كافة اكثر بكثير من دول اوروبا الشرقية، وهو ما تعترف به التقارير الدولية. وتربط تركيا بالاتحاد الاوروبي كما تثبت لغة الارقام مصالح ومنافع اقتصادية باعتبارها القوة الاقتصادية الـ 16 عالميا، وقد أظهرت معطيات مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، أن تركيا هي خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي وينمو حجم التجارة بين الاتحاد الاوروبي وتركيا بنحو متسارع، فقد ارتفع في العام 2017 إلى 154.5 مليار يورو وتأمل تركيا برفعه الى 500 مليار يورو في السنوات المقبلة . وعلى صعيد آخر ،تركيا عضو فاعل في الحلف الاطلسي ولها جيش كبير فيه منذ تأسيسه في العام 1949، كما ان لها اتفاقات امنية مع الدول الغربية كافة ومنها دول الاتحاد الاوروبي باعتبارها ضمن المعسكر الامني الغربي منذ البداية، وقد اشتركت تركيا بقوة عسكرية في الوحدات العسكرية الاوروبية المشتركة العشرة الاولى منذ
العام 1989 اذا كان لتركيا كل تلك المكانة الحقوقية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية بالنسبة لاوروبا فما هو المعيار الذي جعل الاتحاد الاوروبي يقرر عدم جدارتها لعضويته؟ هل نجرؤ فنقول ما قاله احد القادة الاوروبيين بأن تركيا المسلمة لا مكان لها في ناد الاتحاد الاوروبي المسيحي!! انها فضيحة القرن حقاً، فالدول الاوروبية ودعت منذ اكثر من قرنين تاثيرات العامل الديني على سياساتها. والدول الاوروبية بكل مؤسساتها تعلمنا ليل نهار الدروس في جدوى علمانيتها وديمقراطيتها .. فيا رب لك المشتكى لأن الشكوى لغير الله مذلة!!.