محمد غازي الأخرس
ويقول البغدادي استغراباً وتهكماً: فلان خاش بالابريج ويريد يطلع من البلبوله، يقصدون أنّه اتجه إلى التديُّن بإفراط أو بشكل مفاجئ، ويقال ذلك من باب الاستغراب، إما لأن صاحبهم لم يكن من أهل التديُّن بالمرة، أو كان معتدلاً في ذلك ولا يثير انتباه أحد. وفعل (خشّ) عربي صميم تدور في معاني الدخول والنفاذ، تقول العرب خَشَّ في الشيء يخُشُّ خَشًّا أي يدخل وخش الرجل مضى ونفذ، ورجل مِخَشٌّ: ماضٍ جريء، وفعل (يتخشخش) في العامية العراقية تعني أنه يستطيع النفاذ أو يجهد للنفاذ عبر الأبواب المغلقة لتحقيق أغراض شخصيّة، يقولون: فلان يعرف شلون يتخشخش، قاصدين أنّه لا يعدم الوسيلة للوصول إلى مبتغاه.
بالعودة إلى الإبريق أو (الإبريج)، فإنَّ رزوق عيسى يذكر أن اليهود والمسيحيين كانوا يلفظونه (إبغيق) ببغداد بدايات القرن العشرين، ويذكر أن للإبريق عروة وفماً وبلبولة (بلبول)، مشيراً إلى أن المفردة تعريب للفظة (آب ريز) الفارسية بمعنى صب الماء، وجاءت اللفظة متشابهة في بعض اللغات كالتركية والكردية والسريانية. ومن أمثال العراقيين في الماضي قولهم إن: فلان يودي لقن (لِكَن) ويجيب ابريج، أي "ينقل لقنا ويجيء بأبريق، يريدون بذلك أنّه ينقل كلام الناس من واحد إلى آخر أو يتدخل في ما لا يعنيه متعرضا لكل شيء، أو ينقل الحديث من واحد الى آخر لمجرد النميمة". واللقن مفردة عربية تطلق على شبه طست مصنوع من نُحاس أو صُفْر ضيِّقُ القاعِ متَّسعُ الأعلى، وتستعمل مع الإبريق لغسل أيدي الضيوف بعد تناول الطعام أو الوضوء.
الآن، في المثل الذي بدأنا به المقالة، يبدو السؤال المنطقي هو؛ لماذا شبه الذهن الشعبي المتجه إلى التدين المبالغ به بمن يدخل إلى الإبريق ويجاهد للخروج من (البلبولة)؟، الجواب برأيي أن التشبيه قد يكون كناية لارتباط إبريق الماء هذا بدائرة التدين عبر ارتباطه بفعالية الوضوء. ففي الماضي، كان الناس يستخدمون الإبريق في الوضوء، ودأبوا على القول لمن يبكر في الذهاب لشأن ما، بأنه "طلع ويه طكة الابريج"، أي أنه ذهب مع صلاة الفجر إذ كان المستيقظون يحملون الإبريق ويذهبون إلى التواليت المسمى (خلاء)، فيكون لإبريق الماء النحاسي رنين يسمع.
الحال أن مقاربة الدخول إلى عالم التديُّن بالدخول إلى الإبريق يشير إلى ما هو أعمق من مجرد الربط الظاهري الذي تحدثت عنه، فالإفراط في التديُّن هو، بوجه من الوجوه، دخول إلى كهف عميق، وارتباطاً بهذا، قد يفهم التديُّن بحد ذاته بوصفه جهاداً للتحرّر من سجن الغرائز ومحاولة النفاذ منه عبر منفذ ضيق وصعب، حتى لكأن المتديّن يجهد للخروج من بلبولة تتجه إلى الأعلى. ليس هذا فحسب، ففكرة الدخول إلى الإبريق لم تستخدم في المثل: فلان خاش بالابريج، فقط، بل تحولت إلى حلم طفولي أيضاً، وذلك في أغنية كنا نؤديها ونقول فيها: والله لأخش بالأبريج واطلع من البلبولة. ومع العبارة، نحرك أجسامنا ورؤوسنا بطريقة أفعوانية، كما لو كنا نحاول التملّص من ضيق الإبريق والخروج من بلبولته.
نعم، كل ذلك أثاره بي المثل: فلان خاش بالابريج ويريد يطلع من البلبولة، فدعوه "يخش"، حتى يأذن له الله بالخروج!