غفران حداد
ربما لم يكن مسلسل "ولاد بديعة" الوحيد الذي تصدر قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة لدى الجمهور العربي الذي تابعه من ضمن مجموعة أعمال مميزة في ماراثون السباق الرمضاني لعام 2024، لكنه بكل تأكيد حصد إعجاب ملايين المتابعين وأصبح حديث "السوشيال ميديا" على منصات التواصل الاجتماعي منذ عرض الحلقة
الأولى.
العمل كتبه يامن الحجلي وعلي وجيه، وإخراج رشا شربتجي، ومن انتاج شركة "بنتا لينس"، وفكرته عن أولاد بديعة مجهولين النسب وأحداثه تدور في سوق الدّباغة بدمشق، حيث تناول ثلاثة أزمنة الأول عقد التسعينات والثاني عام 2009 والثالث في الزمن
الحاضر.
كانت بديعة- إمارات رزق، تبحث عن لقمة العيش، يقودها القدر الى أسواق الدّباغة مطلع التسعينات معها طفلتها ذات الخمس سنوات التي تكبر واسمها "سكر" وتؤدي شخصيتها سلاف معمار قبل أن تحمل بين الدباغين بطفليها التوأم شاهين -سامر اسماعيل، وياسين- يامن الحجلي، وقد انجبتهما من عارف الدباغ- فادي صبيح، بسبب اعتدائه عليها.
شخصية بديعة شدت أنظار المشاهدين اليها برغم الصراع الحقيقي الذي يبدأ مع أولادها وشقيقهم الابن الشرعي الوحيد مختار - محمود نصر على إرث أبيهم الذي مات قبل أن يعترف بإبوته لهما. بعض المتابعين وجد أن شخصية بديعة التي لا تجيد الكلام وتعيش غالبية عمرها مشردة في الشوارع مأخوذة من أحد افلام السينما المصريَّة وتحديداً فيلم "توت توت -1993" للمخرج عاطف سالم وبطولة نبيلة عبيد التي أيضا أدت دور امرأة لا تتكلم ومختلة عقليا تم استغلالها من رجل غني لعب دوره الفنان الراحل سعيد صالح، نجح الأخير في استدراجها وتركها حاملا بطفل.
لكن برأيي أن الاستغلال الجسدي للشخصيات الضعيفة موجودة في المجتمع، وفي الواقع وقبل تقديم الفيلم المصري الذي أعتبره كثيرون أنه "قص ولصق" من السينما
المصريّة .
يكبرون ابناء بديعة لكن ياسين وأخته سكر لا يفلحان في مهنة الدّباغين، فيقضيان معظم وقتهما متسكعين في الشوارع ويمارسون مهنة النشل والسرقة، لتعمل لاحقاً سكر راقصة وياسين طبّالا معها، وبعد طرد شاهين لهما من المنزل تضطر سكر للعيش في منزل عشيقها مؤيد -غزوان الصفدي، مدير الكباريه لتتزوج منه لاحقا وهو يستغلها لأجل جني المزيد من المال في حين كانت سكر تحلم بالأمومة
والإنجاب.
ابدعت الفنانة سلافة معمار في أداء الشخصية وامسكت بخيوطها وتقمصتها بشكلٍ ملفت وتميّز الى جانب إبداع الكثير من الشخصيات التي تملأ العمل، فجمعة العاطل عن العمل الذي ينفق أمواله على مصارعة الديوك، وأيضا كانت والدته أم جمعة- نادين خوري، التي تأخذ جلود الحيوانات من المسالخ الى معمل الدّباغة على دراجتها ذات الخمس اطارات ووجد الجمهور السوري حصراً في قيادة المرأة للدراجة النارية غريب فهي محصورة بالرجال فقط، كانت ايضا شخصية الوفا الشامي- رامز الأسود، وهو المطرب الشعبي المقيم في دبي ويضطر للعودة الى دمشق كذلك شخصية دراعي القزم الذي يعمل مع تاجر البنزين الحر مع معلمه ابو الهول- محمد حداقي البلطجي الذي يعيش على الاتاوات من صغار المهربين، شخصيات كثيرة وغريبة تُشعر المشاهد انه يقرأ احدى روايات ادب أميركا اللاتينية
لكن في بيئة دمشقيّة. ومن أهم من اسهم بنجاح العمل كانت المخرجة شربتجي التي وفقت باختيارها للممثلين وقدموا أدوارهم بإحساس عميق ومقنع ومتكافئ، من دون هفوات كبيرة بين الشخصيات الرئيسيَّة رغم كثرتها وكانت هناك "لازمات لفظية" جاءت على لسان أبطال العمل، وكانت كل شخصية في العمل لغة وألفاظاً تناسب مستواها الثقافي وموقعها من الصراع الشائك في العمل.
لغة اعتبرها الجمهور تشبه التي يتحدث بها الناس في الشوارع القديمة في دمشق، كما أن النقلات بين الزمنين الماضي والحاضر تتكفل بالكشف عن الشخصيات وتكوينها النفس والاجتماعي الى جانب بيئة العمل التي أبدعت شربجي في اختيار اماكن التصوير المناسبة مثل محطة القطارات المهجورة التي يجتمع بها الأخوة وسوق الدّباغين القديمة بمنطقة الزبلطاني على أطراف دمشق، أيضا الموسيقى التصويرية لـ "خالد كمار" التي جاءت متناغمة مع لقطات المشاهد، وروحيَّة النص.
لكن بعد كل ما تميز به العمل لنكن صريحين في أن المسلسل يخلو من أية شخصيّة ايجابية، فعارف الدباغ الذي قدمه كاتبا العمل على أنه رجل فاضل ولا يفوّت فرضاً اعتدى جنسياً على بديعة حتى زهور - ولاء عزّام، فهي خلال وقت قصير، تركت خطيبها نظمي- هافال حمدي، لأن شقيقها جمعة- مصطفى المصطفى، وضع له قطعة حشيش في ثيابه، هذا الوضع الذي اكتشفته زهور يجعلها تترك نظمي وتضعف امام ثراء حبيبها السابق العائد من الخليج، الوفا- رامز الاسود، برغم الملحمة الشعبيّة لنص وأداء الممثلين وإبداع مخرجة العمل، لكن قدموا لنا صنّاع المسلسل أن المجتمع خالٍ تماماً من الخير، حيث قُدم الينا انّ واقع المجتمع اليوم فاسد وقذر ومادي ومتوحش وظالم وسادي حتى شخصية عبير -روزينا لاقاني، تم اعدام امنياتها الورديّة ولم يكد يولد العشق في قلبها حتى طوقته الكراهيّة والضغينة، وكأن الجميع مكتوبٌ لهم تجهض أحلامهم قبل أن تولد، وكأن صناع العمل يؤكدون للمشاهد أن ماضي البشريّة تنغص على مستقبلها من دون وجود بصيص أمل.
المجتمع فيه الخير والشر، كان هنالك مشاهد عنف لم أتمكن من مشاهدتها برفقة طفلتي وغيرت المحطة لأعيد متابعة الحلقة في اليوم التالي، حيث كان مشهد اعدام القطط على يد طفل موغلاً في العنف، ومشهد ضرب مختار المبرح على يدي ياسين وشاهين، وكأن جميع الشخوص في هذه الرواية التلفزيونية قُدّر لها أن تُترك وحيدة في غابة الكون مصيرها نهش الذئاب البشرية، القوي يأكل الضعيف لكن العمل برغم سوداوية قصته يحمل عرضاً مبهراً على مستوى النص وأداء الممثلين وحتى الاخراج وتلوين المشاهد جاء احترافياً من ناحية اختيار الملابس والإكسسوارات والألوان والسيارات، صور بصرية توازي ما يعرض في المنصات العالمية.
ختاما صناع مسلسل "ولاد بديعة" يؤكد للجميع أن الدراما السورية بدأت تتعافى شيئاً فشيئاً رغم الحرب والدمار.