استنطاق اللَّوحة في رسومات محمود شُبَر

ثقافة 2019/06/10
...

د.علي المرهج
 
 
روح صوفية وميول للفن التشكيلي التجريدي، تلك هي اشتغالاته الأولى في عالم الرسم متأثراً بصوفية “كاندنسكي” الذي كانت أعماله الفنية موضوع دراسته للماجستير.
كانت الحرب موضوعات رسوماته والسياسة شاغله، فما كان منه تعبيراً لرفض الحرب وهيمنة السياسي على الاجتماعي وطُغيانه سوى اللجوء للمدرسة التجريدية كي يُضمنها رمزية وترسيمات لونية تُتيح له حُرية التعبير عن هذا الرفض داخل فضاء اللوحة، فهو من جيل لم يعش بسلام أبداً فكان كل ما انتهت حرب دخل النظام بحرب أخرى، لذا تجد لوحاته تضج في بداياتها بحركية الألوان وتعددها وتداخلها وصخبها، فكان بحق “رسام الحرب” كما يحلو للبعض تسميته، لكنه رسام للحرب لا من أجل غوايته بها، بل لأنه ماهر في تشكيل صور الدمار في الحرب رسماً وتشكيل رؤية فنية لها مرجعية فنية تعبير الرفض فيها كامنٌ في رسوماته، أو ما قيل عنه أنه يُجيد رسم “فن الانتقام من الحرب”، فهو يُصرَح كي لا يُحاسبه المغرضون في التقليل من (بلاغته اللونية) بأنه “من جيل ولد ما بين حربين ودُخانها والمدافع”، ليُذكرهم بقوله: “أنا لم أرسم المُدن، إنما رسمت الحرب” بلوحات تعبيرية وضربات ريشة فنان يعي رسالة الرسام ليرسم لنا من “أرض الدم” تمظهرات اللون و “حكايا الجسد” االعراقي الذي أنهكته الحروب، فلوحاته خبر يصلح أن يكون “سب تايتل” بتشكيل لوني لتقتصه محطة اخبارية تهتم بشؤون أهل العراق، لتُخبرنا أن في التشكيل خبرٌ أن هُناك بلداً أكلته الحروب، وأهله صامدون!. 
تلك هي رسالة محمود شُبَر الفنية، بوصفه (فنانا مُعاصرا ينتمي للزمان والمكان)، وهو من الفنانين الذين يُصرحون ولا يخجلون بأن له “بصمة خاصة”، فلم يكن تشكيله على غرار تصميم بابلي سبق، فما أنتجه أجداده من خلق وابداع فني لهو كفيل بأن يمنحه القُدرة على الخلق والإبداع في التشكيل الفني رسماً يُكمننا من الحُكم على لوحته من دون تدوين اسمه عليها بأن عائديتها لمحمود شُبَر، لأنه فنان (رسالي) يُحاول بـ (بصمته الخاصة) في التشكيل اللوني أن يرسم الوطن بما فيه من خراب وما فيه من أمل يحمله هو ومن ماثله وشاركه الهم من (جماعة الأربعة) أن يُعيدوا انتاج الوطن وفق مُخيلتهم الإبداعية المؤسسة على قراءة لتاريخ وطنهم بكل ما يكتنزه من جمال ومعرفة.
في لوحته (السياب) يجمع بين الرؤية الأخَاذة في رسم صورة السياب وقصيدته (مطر مطر..ما مر عام وليس في العراق جوع)..
لا يتخذ محمود شُبر من الرسم أداة لإضهار مهاراته الإبداعية التي لا يُختلف عليها، وإن كان ذلك من مُعطيات التعبير عن إمكانتاه، ولكنه (فنان) مُفكر، ومُفكر فنان، يجعل من فنه التشكيلي عتبة لتدوين تاريخ لمرحلة مهمة من تاريخ العراق، فهو يكشف عبر ريشته تاريخ “العُنف الدموي في العراق” والعمل على جعل الفنان بمصاف المُفكر، كلاهما يكتب وينتقد، فالمفكر يُدون تاريخ الشقاء والعُنف باستخدامه قلمه ورؤيته النقدية، وشُبَر من خلال ريشته ورؤيته التعبيرية داخل فضاء اللوحة،يُشارك مؤرخ الأفكار مهمته، فهو من الفنانين الذين يُمكن تصنيفهم على أنهم من دعاة “الفن للحياة” لا “الفن للفن” بمعنى أن الفن عنده تربية للذائقة الجمالية أولاً ونقداً صورياً عبر الرسم للواقع لا من أجل “تفسيره” إنما هو عمل دؤوب لـ “تغييره”، وكأنه يُراداف بين مهمة الفن ومهمة الفلسفة التي تحدث عنها (ماركس).
في خضم توظيف رجالات السياسة والدين في العراق للدين والشعائر نجد محمود شُبَر يلج هذا المُعترك ليكون مُشاركاً بنقد هذا التوظيف بلوحة تشي بالكثير من الدلالات يظهر بها “الإمام الحُسين بوجه على شكل شمس راكباً حصانه الأبيض، حاملاً رايته الحمراء دلالة على أن الحرية لا تُطلب إنما تُنتزع وكل هذه دلالات على أهمية ثورة الحُسين (ع) بوصفها ثورة إنصاف وسعي لتحقيق الإصلاح، ولكن خلفية اللوحة لوحة مرورية في سهم يُشير إلى كربلاء وآخر يُشير إلى (طويريج) ووجهة الإمام عكس كلا الطريقين!!.
أية بلاغة أقوى من هذه البلاغة؟!، إنها (بلاغة الصورة) والتصوير والرسم والتشكيل، لذا نجد الإمام (ع) يتجه صوب هدفه بعيداً عن الفاسدين في السياسة والدين!.
في محاولة مُبتكرة ولا أظن أحداً قبل محمود شُبَر قدَ استخدمها في فضاء التشكيل نجد شُبَر يستخدم في أعماله التشكيلية (اللوحات المرورية) في العراق الدالة على المُدن والإشارة للتحويلات، ببلاغة تشكيلية مُبهرة، ففي لوحته (الموصل تُرحب بكم) تجد اللوحة متآكلة بعض حروفها، اللون الأسود يأكل بعض حروفها المكتوبة باللون الأبيض، وهذه ليست لوحة فقط رسمتها ريشة فنان مُحترف يترك العنان لروحه للتعبير عنها لونياً بواسطة 
الريشة.
اللوحات المرورية في رسوماته علامات إشارية يخترق بها محمود شُبَر لغة التعبير الجمالي ليجعلها لغة تفكر وتأمل، وإن قيل أنه لم يكن أول فنان تشكيلي استخدم (إشارات المرور)، لكنَي أقول وبثقة أنه الأول الذي جعلها تنطق بمعانٍ مُغايرة، فهو من صيَرها (أيقونة) ليست للتذوق الجمالي فحسب، بقدر ما جعل منها (أيقونة) للدلالة على تقدم البلد في زمن، ودلالة على تراجعه في زمن (الما بعد) لا لتفضيل زمن على زمن وفق منظومة التفكير العاشقة المُتيمة بالماضي، بل لأن الحاضر (السياسي) و(الاجتماعي) بدى لنا أقل احتراماً لقيم المعرفة والجمال من الذي مضى، وإن كان الذي مضى فيه من المرارة العيش وكُره فردانية السلطة الكثير، فوجدنا في تشكيلات محمود شُبَر اللونية بمعانقتها للتعبيرية (الحروفية) ما يختصر لنا فهم مكامن التبدل والتتغيَر في وقعانا المعاصر، ولك أن تلحظ لوحته التي تظهر بها (بساطيل) الجنود العراقيين مُتهرأة.      
لربما نكتشف بعض تأثير وحضور لحروفيات (شاكر حسن آل سعيد) في رسومات محمود شُبَر، ولكن التوظيف مُختلف تماماً بحكم تحول الحال وتغير الأحوال، وتبدل الموضوعات وتعاظم الصراع، فلم يستخدم محمود شُبَر الحرف لزيادة الإبهار في اللوحة، وربما كان ذلك حاضراً في لوحات (آل سعيد) إنما كان استخدام الجملة داخل فضاء اللوحة لاستكمال العمل الفني (معنىً ومبنىً).
(بغداد تُرحب بكم) معرض فني شارك فيه محمود شُبَر، ليُظهر به تارة وجه بغداد الجمالي حينما كانت قبلة المعرفة والعلم لتجد لوحاته الإشارية ناصعة بهية مثل وجه بغداد كما يأمل هو ونأمل نحن، وتارة أخرى يكشف لنا بعلامته الإشارية وجه بغدد الرمادي ولا أقول الأسود الذي خربته الحروب، والطائفية والفساد السياسي والمالي والإداري.
(بغداد تُرحب بكم) تظهر في رسومات محمود شُبَر بلوحة مُستوحاة من عمل للواسطي تظهر فيها جمال الواسطي رافعة رؤوسها صارخة بمقولة تكتنز الرفض وقولة “لا” لأن مضامين الجُمل تصرخ بالرفض عبر توظيف مهاري تشكيلي للإشارة المرورية التي رسمها لنا محمود شُبَر بألوان تشي بحجم الخراب الذي مسَته أيادي السوء وأصر على بقائها أهل الفساد (أصحاب القرار) برمزية وتعبير يشي بحجم الخراب الذي تعيش فيه بغداد، فالإشارة المرورية (بغداد تُرحب بكم) لا بغداد اتضحت صورتها ولا الترحيب بدى، ليكتب محمود شُبَر مُعلَقته داخل فضاء اللوحة استكمالاً للمعنى:
مخطوطة بغداد تُرحب بكم
يحيى بن محمود الواسطي
محمود بن شاكر شُبَر 
 الفن خلاص كما الفلسفة، والمهمة مُضنية في (التخيل) عند الفنان، و (التعقل) عند الفيلسوف، وكلاهما يلتقيان، من جهة (الإنهمام) بالجمال وتحسين الحياة كي تكون أكثر مقبولية في 
العيش.