شرخ واحد في خط المواجهة فتح منفذاً للروس

قضايا عربية ودولية 2024/06/05
...

 مارك سانتورا 

 ترجمة: أنيس الصفار 

 

رجَّت الأرض انفجارات مدوّية حين كان طاقم الجنود الأوكرانيين يتأهب للمناورة بمركبته القتالية من نوع برادلي أميركية الصنع والخروج بها من تحت غطاء التمويه مرة أخرى إلى مرمى النار.

أجال الرقيب قائد المجموعة بصره في السماء بتوتر متفحصاً ثم قال: “إذا ما رأونا فسوف تنهمر علينا قذائف كي أي بي” . في إشارة إلى القنابل من زنة طن التي صارت روسيا تستخدمها في استهداف أثمن الدروع والتحصينات الدفاعية في الترسانة الأوكرانية. 

ذلك الذي ابتدأ على شكل توغل روسي صغير عبر بلدة “أوتشرتاين” الصغيرة ها هو قد تطور حتى استحال إلى خرق جسيم يهدد بزعزعة تماسك الخطوط الأوكرانية عبر المنبسطات الشاسعة في الجبهة الشرقية. كانت مهمة الطاقم هي المساعدة في احتواء ذلك الخرق وتوفير الحماية لجنود المشاة الذين يحاولون التصدي لعدو يتفوق عليهم عدّة وعدداً وإخلاء الجرحى واستخدام مدفع المركبة برادلي القوي عيار 25 ملم في التصدي لأكبر عدد ممكن من الروس.

بيد أنَّ المركبة البالغ وزنها 28 طناً سرعان ما رصدت فأخذت قذائف الهاون والصواريخ تتساقط وتتفجر من حولها، وأصيب المدفعي إصابة بالغة، كما يقول القائد المعرّف بشارة النداء الخاصة به فقط وفقاً للبروتوكول العسكري وهي “لوير - المحامي”.

تحول الواجب الهجومي بسرعة إلى مهمة إنقاذ رفيق في السلاح، وبذا نجا المدفعي من الموت وهو الآن في طور التعافي، كما يقول “لوير” بعد الواقعة ببضعة أيام، غير أنَّ الروس تمكنوا من كسب مساحة أخرى من الأرض وهم مستمرون في محاولة شق طريقهم قدماً.

يقول جنود وقادة أوكرانيون تابعون لألوية ووحدات مختلفة جرت مقابلتهم خلال الأسابيع الأخيرة إنَّ أوكرانيا اليوم أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى منذ الأسابيع المروّعة الأولى من غزو 2022، حيث تحاول روسيا استغلال هذه الفرصة التي انفرجت أمامها فأخذت تصعد من شدّة هجماتها عبر الجزء الشرقي حتى باتت الآن تهدد بفتح جبهة جديدة من خلال مهاجمة المواقع الأوكرانية على امتداد الحدود الشمالية خارج مدينة خاركيف.

تأخر وصول المساعدات الأميركية، الذي امتد أشهراً، إلى جانب تزايد أعداد المصابين والنقص الحاد في الذخائر كان لها جميعاً ثمنها الفادح، وهذا يتجلى واضحاً في قسمات الوجوه المجهدة والأصوات المتعبة للجنود المنخرطين في قتال يومي لا يهدأ ولا يتوقف.

يقول المقدّم “أولكساندر فولوشين”، 57 عاماً، قائد كتيبة الدبابات المخضرم في اللواء 59 الآلي: “بصراحة أقول إنَّ عندي مخاوفي. لأنني متى ما نفدت قذائفي، ولم يعد معي رجال، ولم تعد عندي معدات يستخدمها جنودي في القتال ..” يصمت قليلاً ثم يكمل بصوت منكسر: “سيكون الأمر قد قضي إذن.” 

التقدم الروسي المفاجئ في أواخر شهر نيسان الماضي عبر بلدة “أوتشرتاين”، الواقعة على بعد 15 كيلومتراً تقريباً إلى الشمال الشرقي من “أفدييفكا”، يوضح كيف يمكن لصدع صغير في خط الدفاع أن يولّد آثاراً تفاقمية متتالية، حين تتعرض أفواج بأكملها، منتشرة بالفعل إلى أقصى حدود طاقتها، لخطر التطويق في حين تهب وحدات أخرى بسرعة محاولة تدارك الثغرة.

تبرز الخارطة بلدة “أوتشرتاين” ضمن منطقة دونتسك في أوكرانيا، كما توضح أيضاً مواقع بلدات مثل “كوستيانتينيفكا” و”تشازيف يار” و”باخموت” و”كراماتورسك” و”كريمينا” شمال “أوتشرتاين” وكذلك “أفدييفكا” إلى الجنوب.

يقول الملازم “أوليكساندر شيرشين”، 29 عاماً، نائب قائد إحدى الكتائب التابعة للواء 47 الآلي: “الأمر أشبه بصوت طقطقة ينبعث من محرك سيارتك ولكنك لا تأبه به وتواصل القيادة. سيارتك ستبقى تسير، ولكنها في لحظة ما سوف تتوقف وعندئذ ينتهي الأمر بك إلى إنفاق موارد أكبر من أجل إعادتها إلى العمل. كذلك الأمر هنا، فثمة أخطاء ربما لم تبدُ جسيمة في حينها، ولكنها فرضت الآن ضرورة استعادة استقرار الوضع الآن، ولا يمكن الجزم أين ستكون تلك النقطة التي يستعاد فيها الاستقرار.” 

ينهي الملازم شيرشين كلامه قائلاً: “أي حدث لم تتحسب له مسبقاً قد يقلب أوضاعك رأساً على عقب تماماً، وهذا هو ما حدث في أوتشرتاين.”


فعل التموجات المتوسعة

عقب سقوط “أفدييفكا” بيد القوات الروسية في شهر شباط اتخذ من بلدة “أوتشرتاين” نقطة تمركز قوية للجيش الأوكراني على امتداد الطريق السريع، واضطر معظم سكانها البالغ عددهم ثلاثة آلاف نسمة إلى الفرار منها. المباني السكنية العالية التي تركها أهلها، وغيرها من البنى التحتية المدنية، وفرت مواضع دفاعية جيدة، وبقيت الأحوال مستقرة نسبياً على هذا المنوال طيلة شهرين.

لكن خطأ ما وقع بعد ذلك، ففي أواخر شهر نيسان ظهر الروس فجأة في الشوارع المخربة حول منزل “إيفان فيفسيانيك”. للوهلة الأولى توهمهم جنوداً أوكرانيين، ولكن عندما طالبوه بإبراز جواز سفره أيقن الرجل ذو الثمانية وثمانين عاماً أنَّ دفاعات “أوتشرتاين” قد انهارت.

قال فيفسيانيك في مقابلة أجريت معه بعد تمكنه من القيام بما يسميه “مسيرة الشقاء” فراراً عبر خط المواجهة: “كنت أحسب أنَّ جنودنا سيعودون لينالوا منهم، لكن ذلك لم يحدث.”

بعد ثلاثة أسابيع توسع ذلك الخرق، الذي ابتدأ على شكل تقدم روسي محدود، متحولاً إلى انتفاخ قاربت مساحته 40 كيلومتراً مربعاً زاد عملية الدفاع عن منطقة دونتسك تعقيداً على تعقيد.

اذا ما تطور هذا الانتفاخ وازداد توسعاً صوب الشمال فسوف يتيح للروس فرصة تخطي بعض أقوى التحصينات الأوكرانية في الشرق التي تمكنت من الصمود طيلة سنوات. بوسع روسيا الآن أيضاً أن تنشئ محوراً هجومياً جديداً يستهدف بلدة “كوستيانتينيفكا”، التي تعتبر مركزاً لوجستياً للقوات الأوكرانية.

محاولة الكرملين للتقدم من قرية مدمّرة إلى القرية التي تليها جرى تسجيلها في ساعات من المقاطع المصورة للمعارك تناقلتها الألوية الأوكرانية على خط الجبهة. 

كان المشاة الروس يقتحمون الحقول المزروعة بالألغام مشياً على الأقدام أو يستخدمون الدراجات النارية الخاصة بالمناطق الوعرة أو سيارات الكثبان الرملية مسابقين الطائرات المسيرة الأوكرانية المتفجرة. بعد ذلك هاجموا بطوابير مدرعة متفاوتة الأحجام، وكانت الدبابات هي التي تتقدم الهجمات الكبيرة في أغلب الأحيان بعد تغطيتها بمظلات معدنية ضخمة وتجهيزها بمعدات الحرب الإلكترونية المتطورة لحمايتها من الطائرات المسيرة. اطلق المراقبون الغربيون على هذه الدبابات تسمية “الدبابة السلحفاة”، أما الأوكرانيون فقد اطلقوا عليها تسمية “ووندرفافليا”، وهي تسمية تجمع بين كلمة ألمانية تعني “العجيب” وكلمة أوكرانية تعني “كعكة الووفل”.

يقول الملازم شيرشين: “كنا ندع مشاتهم يقتربون منا لكي تتاح لنا فرصة التماس عن قرب والمواجهة النارية المباشرة، لذا تزايدت خسائرنا.”

الروس أيضاً يدفعون ثمناً مذهلاً لكل خطوة يتقدمونها. ففي نيسان كان يقتل لهم ويجرح نحو 899 جندياً كل يوم، وفقاً لتقرير حديث صادر عن وكالة الاستخبارات العسكرية البريطانية، ورغم إلقائهم بكل هذا العدد الضخم من الجنود في المعركة لم يمكنهم أن ينتزعوا سوى مساحة لا تكاد تزيد على 78 كيلومتراً مربعاً خلال شهر نيسان، وفقاً للمحللين العسكريين. أما الاستيلاء على آخر المدن المحصنة في الدونباس– مثل المراكز الحضرية “كراماتورسك” و”بوكروفسك”– فمن شبه المؤكد أنه سيتطلب خوض معارك كبيرة دامية.

رغم ذلك بدأ التقدم الروسي بتغيير هندسة الجبهة على نحو خطير خلال الأسابيع الأخيرة في الشرق والشمال الشرقي.


خط الجبهة المتهرئ

يقول المقدّم فولوشين، قائد كتيبة الدبابات: “انظر إلى الخارطة، أين نتمركز نحن وأين تقع أوتشرتاين..” مضى يتأمل التضاريس استعداداً للخروج في مهمة تستهدف منزلاً يعتقد أنَّ 20 روسياً يختبئون فيه. استأنف مبيناً: “يمكنني الافتراض الآن أنَّ بوسعهم تجاوزنا بسهولة عن يسارنا وعن يميننا، فهم يمتلكون النجاح التكتيكي ولديهم المعدات والرجال والقذائف. لذا بالوسع توقع أي شيء.”

عدم حدوث تغيرات دراماتيكية مهمة في الجبهة لمدة طويلة تعدت العام أدى إلى خفوت وتيرة القتال الموقعي المضني اللازم للمحافظة على هذا التوازن القلق. ففي مثل هذه الحرب، التي يمكن أن يتواصل القتال الطاحن فيها أسابيع لأجل صف من الأشجار، جاء التوغل الروسي المفاجئ والوصول إلى المنطقة المحيطة بأوتشرتاين ليفرض مشكلة من اشد المشكلات خطورة.. لأنه كان سريعاً ومباغتاً ومتوغلاً في العمق.

نشب جدال مرير بشأن تحديد الطرف المسؤول عن الفشل في الحفاظ على تماسك خط الجبهة هناك. فقد اتهمت قناة “ديب ستيت تلغرام”، التي تربطها صلات وثيقة بالجيش الأوكراني، اللواء 115 الآلي بأنه تخلى عن مواقع حساسة دون أن يتلقى أوامر بذلك، وهكذا سمح للروس بالتغلغل واقتحام المستوطنة. بيد أنَّ اللواء المذكور رد نافياً بغضب وقال إنَّ جنوده واجهوا تفوقاً عددياً بنسبة خمسة عشر إلى واحد وانهم صمدوا إلى أقصى مدة ممكنة بوجه قصف لا يبقي ولا يذر. 

قال اللواء ضمن رده: “نحب أن نؤكد بأن ما من وحدة نظامية من وحدات اللواء 115 التابع للقوات المسلحة الأوكرانية قد تخلت عن موقعها أو فرت منه”. وقد شكلت لجنة عسكرية خاصة لتحديد ما الذي وقع بالضبط.

الجنود المطلعون على تلك المعركة أبدوا تردداً حيال توجيه انتقاد علني إلى لواء مجاور لهم، بل قالوا إنَّ هناك جملة من المشكلات التي كان لها مجتمعة على الأرجح دور في الأمر، بدءاً من رداءة الاتصالات إلى مواجهة التفوق الشاسع بالسلاح.

الملازم شيرشين من اللواء 47، الذي كان مرابطاً في مواقع مجاورة للواء 115، لا يطيل التأمل في محاولة تحديد الخطأ الذي قد يكون وقع، بل يقول إنَّ التبعات كانت فورية، إذ سرعان ما بدا جلياً أنَّ على اللواء 47 التراجع وإلا تعرض لخطر التطويق الذي تتبعه خسائر مفجعة.

يقول: “لقد شعر الروس بوجود ضعف في ذلك الاتجاه أثناء محاولاتهم استغلال الثغرات والتسلل منها خلف الجنود الأوكرانيين. بعد ذلك خسرنا أوتشرتاين ومن بعدها نوفوباخموتيفكا ثم سولوفيوف.”

يقول الملازم إنَّ القيادة الأوكرانية العليا لا يسرها التخلي عن أي شبر من الأرض، لذا فإنَّ من الصعوبة بمكان محاولة إقناعهم بالسبب الذي يجعل التشبث بموقع معين أمراً 

سيئاً.

يأمل الملازم شيرشين، أن يتحسن الوضع عند وصول الأسلحة الغربية، ولكن إلى حين وصولها “سوف نبقى نموت ونبقى نخسر الأرض”، على حد تعبيره.

يضيف قائلاً: “السؤال هو ما اذا كان ذلك سيتم بوتائر بطيئة تسمح بالدفاع، أم سريعة لا معنى لها.” 

• “نيويورك تايمز”