قبرٌ في أرض بعيدة

الصفحة الاخيرة 2024/06/27
...

د. طه جزاع
لم يخطر على بالي يوماً، أن التقيه في مقبرة بأرضٍ بعيدة، لكن شاهدة هذا القبر الذي بحثتُ عنه طويلاً حتى وقفتُ أمامه، أعادتني إلى صور وذكريات تعود إلى أيام الدراسة، حين شاء القدر السعيد لجيلنا الجامعي منتصف السبعينيات أن يكون الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح واحداً من أساتذتنا الكبار. 

كان يومها في الثانية والأربعين من عمره، وفي عز نشاطه وحيويته وحضوره، وكانت سمعته كباحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية والعقائد الدينية والتصوف تملأ الآفاق. 

وقفتُ أتذكر وأتأمل في باحة الجامعة الإسلامية العالمية الممتدة على مساحة خضراء واسعة محاطة بالغابات الكثيفة في ضواحي ولاية كوالالمبور العاصمة الاقتصادية والثقافية والسياحية لماليزيا، وكانت المقبرة المقامة فوق تلة داخل أسوار الجامعة تبدو كأنّها قطعة من الجنة، الزهور والشجيرات تظلل القبور، والأحجار والحصى الملونة تحيط بها، وشواهد المرمر الصقيل تحمل أسماء المتوفين وتواريخ ولاداتهم ووفياتهم مسبوقة بالبسملة والآيات القرآنية، فشعرتُ أن الرجل لم يمت غريباً في أرضٍ غريبة، وقد التحقت إلى جواره بعد سنوات قصيرة على وفاته عقيلته السيدة أم محمد رحمهما الله.

كانت زيارتي للمقبرة في حزيران 2018 فاسترجعتُ آخر مرة التقيته مصادفة في بهو فندق بالعاصمة الأردنية عَمان بعد مغادرته بغداد للتدريس في عدد من الجامعات العربية قبل عشرين عاماً، واتفقنا على أن نلتقي مرة أخرى في مكان ما، لكن بالتأكيد ليس في مقبرة!.

خصص عبد الحميد أطروحته للدكتوراه بجامعة كمبردج تحت رعاية المستشرق الإنجليزي الشهير آرثر جون آربري لدراسة "أثر الفكر الاعتزالي في فكر الشيخ المفيد"، ثم توالت مؤلفاته وكتبه المهمة في الفلسفة والفلسفة الإسلامية والتصوف والفرق الإسلامية، منها "المدخل إلى معاني الفلسفة"، و"الفلسفة في الإسلام دراسة ونقد"، و"دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية"، و"المستشرقون والإسلام"، و"النصرانيَّة نشأتها وأصول عقائدها"، و"اليهودية عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية".

أما كتابه عن التصوف "نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها" فقد بدأه بمقدمة أوضح فيها أن كتابه هذا يمثل "محاولة علمية تهدف إلى التعرف على مجمل الحركة الروحيَّة في الإسلام، وذلك باستيعاب جميع العناصر المكونة لها ووعي تام بمراحلها المختلفة المتتابعة من تصوف روحاني معتدل سمح جاء به الإسلام، إلى حركة زهد منظمة اتّسمت بالفرار من الدنيا والانقطاع عن الناس واعتزال الحياة، إلى تصور ذي منزع فلسفي خالص ضم أشتاتاً من الثقافات الأجنبية جاءت مع حركة الترجمة والاختلاط المباشر والاحتكاك الحضاري بالأديان والفلسفات القديمة التي اصطدم بها الإسلام في البلاد المفتوحة".

ومن أجل هذا الهدف الذي حدده منذ البدء فإن فتاح يمضي في عرض الاتجاهات العامة للفكر في الإسلام والتصور الإسلامي للألوهية والحياة ودوافع حركة الزهد في الإسلام وتطور الزهد إلى التصوف والمعرفة الصوفية القائمة على أن التصوف وسيلة منتخبة "تؤدي إلى تصفية القلب بقهر شهوات النفس ومغالبة الهوى"، وأما غايتها فهي "الوصول إلى معرفة الله تعالى"، ولقد كان عرفان عرفاني المعرفة، صوفي النزعة، عارفاً بالله حق معرفته، صافي النفس، ساعياً للخير والهداية في منهج وسطي واعتدال إسلامي، مما فتح له القلوب أينما توجه وارتحل.

استقر به المقام بعد العام 2003 في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا التي عرفت قدره ومقامه، واعتزت به، واستثمرت وجوده استاذاً في كلية معارف الوحي، واحتضنته داخل حرمها الجامعي حياً وميتاً بعد رحيله في العام 2007 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين عاماً.