الظهور الأخير للبغدادي.. محاولة في التحليل

آراء 2019/06/11
...

عقيل حبيب
 
اضطرار زعيم التنظيم الى تسجيل هذا الفيديو في هذا الوقت، هو مؤشر يكفي لمعرفة حجم الهزة العنيفة التي تعرض لها التنظيم 
وزعيمه. 
فزعيمه الذي يرفض رفضا قاطعا الظهور الاعلامي خلافا لأسلافه الجهاديين (وما ظهوره الأول قبل ذلك في جامع النوري سنة 2014 إلا من باب الواجب الشرعي لكي يعرض ولايته على المسلمين جميعا في كل مكان فلا تصح البيعة لرجل مجهول، وكذلك لأسباب تنظيمية واعلامية) اضطر تحت احساس الهزيمة ان يظهر وبالاسلوب نفسه الذي ظل يرفضه طوال فترة توليه زعامة التنظيم.
الأسلوب الذي أسس له اسلافه بالأمس واعداؤه لاحقا كالظواهري.
ولكن البغدادي ظهر مقلدا لهم تماما، في الجلوس على الأرض وترك فكرة ان يظهر واقفا أو فكرة ان يظهر خطيبا وفي اصبع يده اليمنى خاتم الخلافة كما فعل ذلك في خطابه الأول، ولكن لجأ مضطرا الى ما قاموا به فجلس على الأرض ووضع البندقية الى جانبه كما كانوا يضعونها، وبدأ باستعراض قدراته واطلاق تهديداته، في مشهد لا يخلو من ارادة استرداد هيبة مفقودة  وترميم صورة ممزقة، علها تتمكن مشهدية التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام من هذه المهمة. 
الاهتمام الاعلامي بالفيديو (وهو اهتمام عالمي كبير) هو ما خطط له اعلاميي البغدادي من العاملين في (مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي)، فرموا بالصورة الى العالم من اجل اخذ الأصل (البغدادي).
بدءا من عنوان المقطع (في استقبال أمير المؤمنين، الخليفة ابراهيم بن عواد البدري الحسيني القرشي البغدادي، حفظه الله) تبدأ الاهداف من هذا المقطع بالظهور، وهي ترميم صورة ما سمي بالخليفة من خلال جدل العلاقة بين نقيضين ومحاولة التوحيد بينهما، بين الماضي الذي هو البغدادي كأمير للمؤمنين يعلن عن دولته من على منبر جامع النوري التاريخي، وبين الحاضر الذي يظهر فيه البغدادي الشخص الجالس على الأرض مهزوما، والذي هو عواد ابراهيم البدري. 
فبينما سيتحاور العالم طويلا مع الصورة - صورة الخليفة الذي يهدد العالم والتي ستبقى معلقة على جدران الفضاء الافتراضي والاعلامي- سينسل ابراهيم عواد البدري بعيدا عن هذه الصورة/ الخليفة هاربا الى نفسه كأي شخص همه الأول يدور حول الأنا من خلال المحافظة على أمنه الشخصي.
وهنا يمكن ان نعود الى المحلل النفسي الشهير جاك لاكان في اشارته الى الرمزي وهو الآخر الذي يكون بمثابة أنا خارجي (يتألف هذا الرمزي من عدد من الدوال مثل دالة أنا البغدادي، انا الخليفة، والخليفة كما هو معروف شكل ديني برمزية عالية وله مركزية نصية ومخيالية)، علما أن هذه الرمزية الآخروية Alterity هي خطاب اللاوعي وبنية نفسية ونظام مسؤول عن صنع الدلالة أو المعنى، لهذا فرمزية الخلافة ظلت محتفظة بأهميتها في اللاوعي الجمعي للمسلمين، والمجتمع عند لاكان مبني بناء رمزيا بالأساس، او - كما استعارها هو من مارسيل موس Mauss - ان بنى المجتمع هي بنى رمزية.
الرمزي عند لاكان مجال الموت والغياب والنقصان، وهو مبدأ اللذة وفي نفس الوقت دافع الموت المتكون من التكرار، ومن ما وراء مبدأ اللذة.
يقول لاكان (دافع الموت ما هو إلا قناع للنظام الرمزي).
فاذا ما رفعنا قناع الخليفة سيظهر هاجس الخوف من الموت واضحا عند هذا الرجل الجالس على الأرض معتمرا بكوفية سوداء ومتمنطقا بدرع من (الرمانات الهجومية)، ولكن كيف يتم رفع هذا القناع في اذهان المتشددين، تلك هي المشكلة. 
ورغم لغة الوعيد والتهديد التي في الفيديو، إلا انه من الواضح اكتشاف أنه مخصص لتسويغ الهزيمة العسكرية في الباغوز وقبلها في دير الزور، والموصل وبيجي والانبار.
جاء التسويغ (اولا) من الاعتراف بالهزيمة وتسمية هذه الأماكن، و(ثانيا) من تسميته لأماكن اخرى على انها ولايات للتنظيم (ولاية القوقاز، ولاية تركيا، ولاية جزيرة محمد، وولاية مالي، وولاية بوركينا فاسو....)، و(ثالثا) من خلال ذكره لاسماء القيادات من الولاة والامراء اللذين قتلوا اثناء هزيمة التنظيم.
هؤلاء القتلى وفي تصريح لخلية الصقور الاستخبارية في وزارة الداخلية العراقية اكدت فيه (أن اغلبية الإرهابيين الذين ذكرهم زعيم تنظيم داعش ابو بكر البغدادي في تسجيله الأخير، قتلوا في غارة جوية نفذتها الخلية في سوريا أواخر العام الماضي.... في منطقة سوسة في دير الزور.. في منتصف كانون الأول 2018 خلال اجتماع لهم) وجاء في تقرير خلية الصقور هذا ان البغدادي قد اصيب بجروح بالغة تمنعه من ممارسة مهامه.
ان خطاب البغدادي هذا هو خطاب وداع (وداع الخلافة ومعها الدولة الاسلامية) يوحي لمتلقيه وبسهولة ان هذا الأخير مثل سلفه بن لادن، فهدفه ايضا هو ان يحسب ما سيتبقى له من ايام، بل أن الشريط كشف انه انخرط في هذا الفعل منذ ايام ليست بالقليلة، فلون بشرته ونعومة يده البادية في الصورة تظهر انه قد انسحب من الميدان الى مكان لا تصل اليه الشمس.
قد يكون هذا المكان مخبا-، او قد يكون مكانا اتخذه مشفى له، خاصة وقد ترادفت اخبار عن اصابته، وهذا ما يضاف الى اسباب ظهوره في هذا الشريط بالاساس، فلم تكن هزيمة التنظيم وحدها في الباغوز سببا، بل من الممكن إضافة تلك الإصابة كسبب جعله لابد أن يخرج ليعلن عن بقاءه حيا، وخاصة لأفراد تنظيمه الذين ربما تكون لديهم معلومات عن اصابته، ولم يكونوا على يقين من بقائه.
هذا ويكشف الشريط عن تغير لون وجهه وخفوت ملامحه مقارنة مع ملامحه وهو يعلن دولته المزعومة في مقطع الفيديو الأول قبل خمسة اعوام، وهذا ما يدل على الانكسار الداخلي والانهزام النفسي، وإلا لماذا لم يظهر وهو واقفا مثلا، او حتى من على منبر؟ 
وبدلا من التحدث عن ارض الخلافة (العراق وسوريا) راح يتعكز على حادثة سريلانكا، وهي من البلدان التي عرفت بنزاعاتها الدينية والطائفية ورخاوتها الأمنية، بالإضافة الى ان المال السياسي فيها يفعل مثل هذه العمليات بسهولة، لذا فأن تبجح البغدادي بالعملية الإرهابية في سريلانكا هو مشهد تطغى عليه الاستعراضية اكثر من الواقع، وبعدها انخرط بتعداد اسماء الدول (الولايات) التي امتد اليها اتباعه ليوحي لهم - وهم الواقعون تحت تأثير ادوات حربه النفسية- بان الدولة باقية.