الحرب مع حزب الله تلوح على الجانب الآخر من الحدود
• بيتر بيومونت وكويكو كايرزنباوم
• ترجمة: أنيس الصفار
تحت مركز الجليل الطبي الذي يضم 800 سرير في مدينة نهاريا شمال إسرائيل تقدم الخدمات العلاجية الآن في مجمع تحت الأرض واقع أسفل المستشفى. في هذا الموقع الذي لا يبعد عن الحدود اللبنانية سوى 7 كيلومترات، وهي حدود يمكن رؤيتها بالعين المجردة من موقف السيارات التابع للمستشفى حيث يكمن خطر فعلي منذ الآن ممثلاً بصواريخ حزب الله وطائراته المسيرة المتفجرة، يدرك الأطباء أن منشأتهم سوف تكون على خط المواجهة المباشرة إذا ما تصاعدت الأوضاع حدَّ نشوب الحرب.
تحت شبكة من الأنابيب المكشوفة، وعلى أرضيات كونكريتية عارية ليس عليها سوى القليل من وسائل الراحة أو حفظ الخصوصية، أنشأت خلية من الردهات المزدحمة ووحدات الجراحة. صناديق التجهيزات مكدَّسة هناك بارتفاع قامة في ممرات ومماشٍ كئيبة الإنارة لا تضيئها سوى وسائل الإضاءة الاصطناعية.
ثمة جناح مجهز بشاشات مخصصة للمتابعة والرقابة سيكون بمثابة المركز العصبي الذي يدير عمل المنشأة في حالة نشوب حرب واسعة النطاق بين إسرائيل وحزب الله، وهو احتمال يلوح شبحه في الأفق ويدنو أكثر فأكثر في خضم تصاعد العمليات العدائية وتبادل إطلاق النار بين الجانبين عبر الحدود. على ظهور المقاعد يرى المرء سترات واقية ذات ألوان براقة تعلن عن أدوار ومهام الأشخاص الذين سيرتدونها، ومن بينها "منسِّق التعامل مع الإصابات الجماعية" .
سيناريوهات متعددة
المسؤول عن استعدادات الطوارئ هذه هو الدكتور "تسفي شيليغ"، وهو طبيب عيون سبق أن أصيبت وحدته بقذيفة صاروخية في حرب العام 2006.
يقول الدكتور شيليغ: "بعد اسبوعين من اندلاع الصراع افتتحنا وحدة ثانية لعلاج الإصابات حين أدركنا أننا قد لا يتوفر لنا ما يكفي من الأسرّة. نحن نواصل التدريب لمواجهة أسوأ السيناريوهات الذي قد يشهد حدوث هجمات صاروخية مستمرة في جهد مكثّف لتحدي الدفاعات الإسرائيلية. لقد تدربنا لمواجهة ظروف قد نشهد فيها سقوط ما يصل إلى 200 إصابة كل بضع ساعات، الأمر الذي سيجعل من هذا المستشفى مركزاً لفرز وتصنيف الإصابات" .
يضيف الدكتور شيليغ أن التهديد الماثل ليس جديداً كلياً، واستعداداتهم التي نراها إنما تعكس صورة أزمة كانت تتراكم منذ أمد إلى أن بلغت هذه النقطة. يضيف الدكتور شيليغ: "لقد بدأنا هذه الاستعدادات منذ عامين ونصف، حيث التقينا بالقادة على الجبهة الشمالية وفي الداخل فبينوا لنا أعداد الصواريخ والقذائف التي حصل عليها حزب الله" .
مدافن وكهرباء
المستشفيات ليست الجهة الوحيدة التي تستعد لمواجهة توسع الصراع المحتمل، ففي يوم الأربعاء 19/6 تحدث وزير الخدمات الدينية الإسرائيلي "مايكل مالكييلي"، وهو مسؤول المدافن في إسرائيل، إلى القناة 14 ذات التوجه اليميني فقال : إن دائرته تعد نفسها لمواجهة ما وصفه بأنه "أحداث أكبر وأوسع نطاقاً في الشمال"، ثم اختتم قائلاً: "هناك أمور لا يمكن التحدث بها على الهواء." في الأسبوع الماضي أثار المسؤول عن شبكة الكهرباء الإسرائيلي هو الآخر مناقشات ولغطاً عندما تساءل بصوت عالٍ كيف ستتعامل إسرائيل مع أي هجوم يقع على منشآت توليد الكهرباء لديها، وهذا انعكاس آخر لشدّة الإحساس خلال الأسابيع الأخيرة باقتراب خطر توسع الحرب عند الحدود الشمالية. فرغم أن المواجهات الحدودية كانت مستمرة على مستوى منخفض بشكل شبه يومي منذ 8 تشرين الأول، عندما كثّف حزب الله إطلاق نيرانه نصرة لحماس في حرب غزة، أخذت التهديدات تتصاعد بحدة من الجانبين مع مرور الأشهر.
خطة هجومية
خلال الأيام القليلة الماضية أعلن جنرالات إسرائيليون كبار أنهم قد وقعوا على خطة لشنِّ هجوم يهدف إلى إزاحة حزب الله من المنطقة الحدودية، في حين حذر زعيم جماعة حزب الله، السيد حسن نصر الله، من حرب ستكون إذا ما نشبت "بلا قواعد ولا أسقف"، وهدد بأن تلك الحرب يمكن أن تمتد لتشمل قبرص التي استضافت على أراضيها تدريبات عسكرية قامت بها وحدات إسرائيلية.
في يوم الجمعة الماضي تصاعدت التوترات أكثر في خضم تقارير أفادت بأن مسؤولين أميركيين قد حذروا إسرائيل من مغبَّة شنِّ "حرب خاطفة" على حزب الله ونبهوا إلى أن دفاعات إسرائيل المضادة للصواريخ من الممكن أن تنهار.
تبعات هذا الأمر بات ممكناً تحسسها منذ الآن، ففي إسرائيل هناك نحو 60 ألف شخص قد أخلوا مناطقهم، وهنالك أماكن قريبة من الحدود تحولت إلى مدن أشباح بعد أن كانت ذات يوم مزدحمة بالسكان، مثل بلدة كريات شمونه.
تساقط طائرات حزب الله المسيرة وصواريخه أدى كذلك إلى إشعال حرائق واسعة النطاق اكتنفت مناطق التلال.
وإذ تستمر الحرب في الشمال بالتمدد وتتصاعد خطورتها يمسي الوضع أكثر احتقاناً من الناحية السياسية بالنسبة لحكومة "بنيامين نتانياهو" الذي كان يركز جلَّ اهتمامه على حرب حماس في غزة.
رغم المساعي الدبلوماسية الحثيثة التي قامت بها الولايات المتحدة لخفض سخونة الصراع يضغط الرأي العام الإسرائيلي باتجاه الإقدام على رد عسكري، حيث يدعو نحو 60 بالمئة من الإسرائيليين إلى شنِّ هجوم "بمنتهى القوة" على حزب الله، وفقاً لعملية استطلاع للرأي أجراها "معهد سياسة الشعب اليهودي" .
استطلاع حزب الله
مع تنامي التهديد بوقوع حرب أخذ هذا الخطر يفرض نفسه عميقاً في قلب إسرائيل. فمن الطريق الداخل إلى مدينة حيفا تلوح للناظر أبراج الميناء العملاقة باللونين الأحمر والأبيض وهي تتسيد خط الأفق لتتنافس على جذب الاهتمام مع أبراج الانكسار التابعة لمصفاة مجموعة "بازان" .
في يوم الثلاثاء 18/6 ظهرت هذه المواقع، المألوفة تماماً لأعين سكان المدينة، بمنظار جديد مثير للقلق من خلال لقطات مصورة سجلتها طائرة استطلاع مسيرة تابعة لحزب الله أثناء تحليقها في سماء المنطقة، ومن بعد ذلك تم بثُّها عبر وسائل الإعلام في تهديد لا يخفى للمدينة التي يسكنها 300 ألف من السكان.
من مقر عمله المتخصص باستيراد النبيذ، الواقع على مرمى البصر من الميناء، يقول "أندريه سويدان"، الذي بقي يدير هذا العمل منذ 30 عاماً،: إن بعض زبائنه القدامى أخذوا يميلون إلى خيار مغادرة إسرائيل مع عائلاتهم.
يقول سويدان: "بالأمس أتاني شخص قد استقر عزمه على الرحيل، قصدني لشراء هدية صغيرة يقدمها للناس الذين سيستضيفونه عندهم. إنه قرار صعب ولكنه طبيعي عندما يتولاك شعور بأن القنابل ستنهمر وشيكاً. عندئذ لا يسعك الركون إلى صديق وهمي وتحسب أنه سوف يحميك."
يمضي سويدان مبيناً أنه بقي في حيفا خلال فترة الحرب الأخيرة مع حزب الله لإنه اعتقد حينها أن أفضل وسيلة للتعامل مع الأمر هي تجاهله، بيد أنه أقل تفاؤلاً الآن ويقول: "أشك في أنني سأتمكن من تجاهل الأمر هذه المرة، فالأوضاع تزداد عنفاً بلا توقف. المقصود من ذلك هو جذب الاهتمام .. وجذب الاهتمام يعني أن تضرب بلا رحمة."
يمضي مضيفاً أن ثمانية أشهر من الحرب قد أوصلت الناس إلى شفا الإنهاك، وهؤلاء الناس في اعتقاده لم يعد بوسعهم التعايش مع مزيد من التوتر، فضغوط الحرب برأيه لا تنحصر بواقعة معينة أو حدث بالتحديد بل هي تصعيد للسخونة يشمل الأمة بأكملها، على حد تعبيره.
واقعية الصراع
لكن على مرأى من الحدود يصبح الشعور بالصراع أكثر واقعية. فإلى ما قبل أسبوع، حين كانت نهاريا ومثلها حيفا تموجان بالحياة صباحاً والمقاهي والشوارع تغص بالعوائل، كان الشعور بقرب المواجهة أكثر وضوحاً خارج المدينة في الأرياف وعند مشارف التلال المطلّة على الحدود.
في الرواق الخارجي لأحد المنازل في كيبوتز كابري التأم شمل مجموعة من السكان لتناول طعام الغداء في الخارج والتداول حول الأوضاع. من بعيد دوّى صوت انفجار ارتفع بعده الدخان من نقطة انحدار التلال نحو البحر، حيث توجد قاعدة عسكرية على الحدود تنم عنها هوائياتها المشرعة.
تصاعد دخان أسود من موقع الانفجار، وبعد دقائق قليلة أعلن الجيش الإسرائيلي أن تلك كانت طائرة مسيرة انقضاضية لحزب الله سددت ضربتها إلى نقطة قريبة، وسرعان ما سمع صوت المدفعية الإسرائيلية وهي تطلق نيرانها على الجانب الآخر. كان الجالسون حول الطاولة مؤلفين من ثلاثة أجيال خاضت تجربة الحرب في لبنان، مرة في مطلع ثمانينات القرن العشرين، ومرة في العام 1995، ومرة في الحرب الكبرى الأخيرة في العام 2006.
يقول "عادي سينان" رئيس الكيبوتز: "نحن جميعاً كنا في لبنان، وقد خبرنا المشهد على الجانب الآخر. نعلم أيضاً أن أحد الخيارات التي نواجهها اليوم هو أن نكون على الجانب الآخر من الحدود."
أما "غوني حراش" فقد كان ينتظر المباشرة بنوبته في الحراسة وبندقيته معلقة بكتفه كأحد أوائل الملبين للدعوة إلى الخدمة. يقول غوني: إن الحياة قد شهدت انقلاباً جذرياً خلال الأشهر الثمانية الماضية. فهو مثل كثيرين غيره قد ترك عائلته في أعقاب هجوم حماس يوم 7 تشرين الأول ودخول حزب الله الصراع في يوم 8 تشرين الأول، يقول إن معظم الناس قد عادوا رغم قرب مناطقهم من الحرب وأخطار التصعيد.
يضيف غوني: "من جهة يشعر الناس بالسرور لوجودهم هنا، لأنك لا تستطيع البقاء مختبئاً والناس لا يحبون الاختباء، لكن التوتر يسود كل شيء حقاً. طول اليوم يمكنك سماع أصوات القنابل وصفارات الانذار ونداءات التحذير، لقد اعتاد أطفالي الذهاب إلى المدرسة مشياً، لكنهم الآن لم يعودوا يذهبون مشياً إلى أي مكان بمفردهم." رغم وجود شيء من الاختلاف بالرأي بين أفراد هذا الكيبوتس هناك شعور مشترك بينهم بأن الحكومة الإسرائيلية قد تخلَّت عنهم وأنهم متروكون لمواجهة مصيرهم وحدهم.
يدور نقاش هادئ في ما ينبغي القيام به، فبينما يبدي البعض استعداداً لتقبل صفقة على المدى القصير إن كانت ستنجح في إعادة الهدوء ولو لفترة محدودة، يرى البعض الآخر أن الهجوم العسكري فقط، وبشكل عاجل، هو الذي سيعيد الأمور إلى نقطة التوازن.
يقول غوني: "لا يدري أحد ما هو الأفضل، هل هو أن نرى مجابهة كبرى؟ أم أن الأفضل هو التوصل إلى اتفاق؟ يلوح كأن الأشخاص الذين يفترض بهم أن يعلموا هم أقل الناس قدرة على الجواب .. يجب أن تقدم الحكومة لنا شيئاً" .
•عن صحيفة الغارديان