القاضي.. رؤية واضحة لواقع مجرد
جبّار الكواز
شكلت مناهج الدراسات المقارنة على مستوى التاريخ والأديان والآداب والعلوم منطلقاً اجتهادياً مميزاً في استحضار الوثائق والوقائع بين الأمم والعصور والتماهي بين المختلف والمؤتلف للوصول إلى رأي مقبول مصاغ بوعي وإدراك ليشكل هذا الرأي منطلقاً اجتهادياً يفيد المختصين. بخاصة من خلال التنافذ في الآراء وصياغة الرأي المقبول من وجهة نظر واقعية أو تاريخية أو اجتماعية أو أدبية.
وشكلت مناهج الدراسات المقارنة في القواعد القانونية رحماً لتلاقح الفلسفات على مرّ العصور لتحقيق ما يصبو إليه منظمو القوانين لتنظيم الحياة المجتمعيّة بصورها المتعددة وأنماطها المبتكرة من خلال تحديد قواعد السلوك الاجتماعي الواجب الإتباع وتحديد الآثار المترتبة على مخالفتها.
بين يديّ كتابٌ مميّزٌ للدكتور هادي حسين الكعبي، أستاذ القانون المدني وفلسفة القانون بعنوان "سلطة تقدير القاضي لعنصر الواقع المجرد في الدعوى المدنيّة/ دراسة مقارنة" وحريّ بنا القول إن دخول هذا الخط الفقهي القانوني المقارن يحتاج إلى نفس طويل ومعرفة عميقة وإطلاع شامل بحيثيات القوانين ونصوصها، فضلاً عن لغة متينة تغطي الأفكار المتعالية فقهياً لتكون في متناول ذوي الاختصاص وجموع المثقفين والمتابعين لأنّ الثقافة القانونية في عصرنا الراهن سلاح بيد الإنسان ليُجنبه الوقوع في مشكلات لا حصر لها وفقاً لجهله بنصوص القوانين وعدم متابعته توثيقاً وحضوراً وتطوراً وتجدداً.
يشكل القاضي في المتن القانوني مركزاً حيويّاً في التعامل مع الدعاوى التي تسند إليه لأخذ أو تقدير الحكم القائم وفقاً لنصوص القانون ولهذا فلا بدَّ أن يكون القاضي مستوفياً لشروط العلم العميق بجوهره التوثيقي أو الاجتهادي ليعطي حكمه القويم بعيداً عن شطط لا سمح الله أو أيّ رَدّ فعل لا يتناسب وطبيعة الدعوى المطروحة، ولهذا فإنّ هذا الكتاب المميز يفتح كوّة منيرة للجميع من خلال دراسته المقارنة في موقف القاضي من تقدير عنصر الواقع المجرد في الدعوى المدنية.
المبحث الأول من الكتاب بعنوان "ماهية سلطة التقدير الممنوحة للقاضي" وفيه مطلبان الإدعاء بالواقع، وإثبات الواقع وحريٌّ القول أن هذه الماهية للقاضي بسلطة التقدير لا يمكن لها أن تتحقق إلا بالمطلبين في أعلاه.
أما المبحث الثاني "تقدير القاضي الموضوعي لعنصر الواقع" فيركز على التقدير الموضوعي للواقع، وعلاقته بعنصر الفرض في القاعدة القانونيّة.
وجاء المبحث الثالث "تقدير القاضي الشخصي لعنصر الواقع" ليتناول حيّز تفكير القاضي، ومادة تفكير القاضي.
ومما يلاحظ أن الباحث بسط أمام القارئ المختص والمتابع وضع القاضي بين ماهية السلطة التقديريّة الممنوحة للقاضي. وتقدير القاضي الموضوعي "غير الذاتي" لعنصر الواقع، وتقدير القاضي الشخصي لعنصر الواقع.
ومن خلال هذه المعطيات الثلاثة يبدأ محرك الدراسة المقارنة بالعمل للوصول إلى رؤية عميقة يطرحها الباحث ويرى أنها الحل الأمثل أمام القاضي بالاستشهاد والمقارنة والغوص في أحداث التاريخ واستخلاص بلورة مضيئة أمام القاضي أي قاضي.
من هنا برزت ضرورة للإنسان لما يسمى بالضبط الاجتماعي، وبما أن القانون يشكل الوسيلة المهمة في وسائل الضبط الاجتماعي بوصفه نظاماً تكاملياً ذا طبيعة متناسقة يشمل على مجموعة من القواعد الكليَّة والجزئيَّة فإنَّ الوصول إلى غاياته المتمثلة بإنفاذ الأهداف المتطلبة من التشريع عبر ما إذا كان سعي المشرّع المباشر يتمثل في إصدار القواعد القانونيّة العامة التي تلزم القضاة والمتقاضين كافة غير أنّه يسعى بالمقارنة في حالة الدعوى لتفويض القضاة سلطة إصدار الأحكام وفي عرضنا هذه الدراسة الاختصاصيّة فإنّنا نسعى "والكلام للباحث" إلى تذليل الرؤية الواضحة لأسسها وطبيعة عناصر البحث المقارنة في إيضاح طبيعة سلطة تقدير القاضي لعنصر الواقع المجرد في الدعوى المدنية حصراً. مما تقدم نقول إنّ القضاة المفوضين بتطبيق القانون على النزاعات المرفوعة لهم حسب قواعد الاختصاص أمام نوعين من الدعاوى:
الأول: دعوى أنموذجيّة متطابق بوضوح مع حالات استهداف القانون صراحة وهي تمثل الأغلبيّة من الدعاوى التي يكون الفصل فيها يسيراً نسبيّاً.
الثاني: هو النوع الاستثنائي من الدعاوى التي لا ينظمها القانون بصورة مباشرة ولا مثيل لها في الجانب التطبيقي العملي وهو ما يؤدي بالضرورة إلى حاجة من الفهم الخاص والمحدد ولا يستطيع القاضي في هذا النوع أن يتحصّل في القانون على حلّ لمثل هذه الحالات، ولهذا كانت هذه الدراسة المقارنة لفك الاشتباك بالحكم وفق سلطة القانون واجتهادات القاضي، لأنّ أساس سلطة التقدير الممنوحة للقاضي توحي باعتراف المشرّع بعدم إمكانية الإحاطة الكاملة للتشريعات بمجمل أوضاع التصرّفات القانونيّة وأشكال الأفعال الماديّة وما يختلط فيها من أوصاف معدّلة لصورتها الأولى، ويمكننا الاستدلال على ما تقدم من سلطة تقدير واسعة أو مقيّدة ممنوحة للقاضي ووفق هذا المنطق انطلق الباحث في تحليل الأفكار التي اختصرنا أهمها بمباحث الدراسة قيد العرض، فلقد شكل المبحث الأول في البحث في ماهية سلطة التقدير الممنوحة للقاضي وأساسه هو استخلاص الواقع المنتج في الدعوى المدنية المنظورة التي يمثل عنصر الواقع فيها، ومحاولة ربطه بعنصر الفرض في القاعدة القانونيّة. وهي بمثابة المقدمة الصغرى الممهدة للوصول إلى مباحث كبرى في عنصر الحكم في القاعدة القانونية، لأن تحديد عنصر الواقع يوضح بصورة قاطعة مهام وسلطة القاضي والخصوم في الدعوى المدنيّة مع تأكيد التزام القاضي بعدم تعديل البنيان الواقعي من خلال إثباته وعرضه للمحكمة بطريقة واضحة ومسلسلة مع إلزام الخصوم بإثبات الواقع المنتج بالأدلة التي حددها القانون ونصّ عليها وفي حالة كفاية الأدلة على صحة الوقائع المدّعى فيها حين تتوافر القناعة اللازمة لإمكانية حسم الدعوى بما لا يقع على عاتق القاضي إلزاماً، في حين أن المبحث الثاني التقدير الموضوعي لعنصر الواقع عند القاضي يشير إلى موضوعية في التقدير فيما يطرحه الخصوم من واقع في الدعوى واستخلاص المنتج منها يهدف تطبيق حكم القانون الصحيح والتأكيد على الرقابة على الاستخلاص الواقعي ومراقبة عناصر الواقع في الدعوى المدنية بين تقدير ذاتي وتقدير موضوعي وعلاقة ذلك بعنصر الفرض في القاعدة القانونية، فالقاضي هنا حرٌّ في تكوين قناعته الخاصة بعنصر الواقع المعروض عليه فيعتمد على ما يكون معبراً عن الحقيقة التي يسعى لتأكيدها من خلال حكمه الفاصل في موضوع الدعوى شرط عدم تشويه المضمون فلا يعطيه معنى لا يحتمله في تفصيلاته ويكون بعيداً كلّ البعد عن ماهيته أمام موضوع الواقع وعلاقته بعنصر الحكم في القاعدة القانونيّة فإنّ تطبيق حكم القاعدة القانونيّة بطريقة مقيّدة يعني أن تطبيقها تمّ بمباشرة الاختصاص المقيد أما تطبيق حكم القاعدة بطريقة مرنة فإنّ من قام بذلك يمارس اختصاصاً يتضمن سلطة تقدير معينة ويبدو أن هناك ارتباطاً يصعب فصله بين التقدير والتكييف لأن كلا الأمرين يردان على عناصر واحدة، ويقوم بهما شخص واحد يحمل ذات الصفة في مباشرته لعمله القضائي ولا بدّ للقاضي هنا دراسة الواقع المتنازع عليه من قبل الخصوم بالاستناد إلى الرأي القضائي الأول فيصدر قرار بحكم الواقع المتنازع عليه بأثر القاعدة القانونية.
مثلت خاتمة البحث جملة نتائج تتعلق بالموضوع ويمكن أن تتخذ كمنطلقات لتوسيع أفق هذه الدراسة، لأنّها تتعلق بصلاحية القضاة التقديريّة ومدياتها وضرورة إبراز سلطة واضحة للتقدير الشخصي والموضوعي الممنوح للقاضي، فضلا عن صلاحية إصدار الحكم القضائي بموجب سلطة القاضي التقديرية، وكيفية توزيع عناصر الواقع المجرد في الدعوى المدنية من قبل الإدعاء. وهي نتائج مهمة وعملية يمكن أن تشكل منطلقات جديدة ورؤى اقترانية وخلاصات تقود إلى تذليل عناصر الموضوع المطروح بروح من المقارنة الاجتهادية الواعية والدقة واستثمار التوثيق المقارنة بين القوانين الفاعلة عند الشعوب الأخرى.
إنَّ الباحث الدكتور هادي حسين الكعبي وبرؤيته العميقة الواقعية وتحليلاته المنطقية وبلغته المتعالية في معالجة خفايا الموضوع تمكن من أن يضع بين يدي مختصي القانون ودارسيه درة ثمينة من درر الفكر الإنساني الخلّاق.