عباس الصباغ
من المعروف ان كلا البلدين: الولايات المتحدة الامريكية وايران يمتلكان ارشيفا حربيا دمويا ضخما مليئا بالمآسي والفواجع التي لاتمحى بسهولة من المخيال الجمعي لكليهما، فلا تزال كوارث الحربين العالميتين وحرب فيتنام ماثلة للشعب الامريكي، رغم ان تلك الحروب لم تقع على الاراضي الامريكية الاّ ان الثمن الذي دفعه الشعب الامريكي جراءها كان باهظا جدا ، وماتزال الجراح التي تركتها تلك الحروب لم تندمل حتى الان ناهيك عن حروب دامية اخرى كالتي خاضتها في العراق (عاصفة الصحراء في 1990 ـ حرب اسقاط نظام صدام في 2003) وهي حروب كانت مكلفة على جميع الصعد ناهيك عن الحروب التي خاضتها في البوسنة والصومال وغيرها كثير .
اما ايران فلا تزال ذاكرتها الجمعية ولعهد قريب تحتفظ بذكريات مؤلمة جدا عن الحرب العراقية ـ الايرانية (1980 ـ 1988 ) وهي اطول حرب في القرن المنصرم بعد الحربين العالميتين والاقرب لهما من ناحية الدمار والخسائر كونها حربا اهلكت الحرث والنسل . وقد توجس العالم باسره خيفة من تكرار تلك السيناريوهات الدموية، وحبسَ انفاسه في خضم الاستعراض المتبادل للقوة بين الطرفين وصل الى درجة استقدام حاملات الطائرات والبوارج والقاذفات الستراتيجية للمنطقة يقابله استنفار ايراني تام وتحشيد عسكري غير مسبوق للقوات العسكرية الايرانية وخاصة الذراع المسلح الاقوى للحكومة الايرانية (الحرس الثوري) مع اشتعال حرب تلاسن اعلامي بينهما وتراشق مكتظ بعبارات التهديد والوعيد والويل والثبور، وصار العالم كله يتفرج على سيناريوهات محتملة ليس لاندلاع حرب مدمرة فقط تطيح باستقرار المنطقة ككل ومنها العراق الذي سيكون أول المتضررين منها، بل بوضع “بدائل” محتملة عن مضيق هرمز الحيوي الذي كانت ايران تلوّح وتهدد بغلقه امام الملاحة الدولية مايعني ان شللا كاملا سيصيب امدادات النفط العالمية ومنها صادرات النفط العراقي .
وفي هذه الاجواء كانت علامات الاتصال عبر القنوات الدبلوماسية غير واضحة ومشوشة او معدومة اصلا لاستحالة جمع طرفين امتدت العداوة والقطيعة الدبلوماسية بينهما الى اربعة عقود خلت اي بعد انتصار الثورة على يد اية الله الخميني (شباط 1979) وتوجّت القطيعة بعد ان اعلن الرئيس ترامب انسحابه من الاتفاق النووي ومن طرف واحد وهو الانسحاب الذي كان القشة التي كسرت ظهر البعير .
وبعد التي واللتيا لاح شبه بريق امل في الافق بانقشاع غمامة الحرب السوداء عندما ارسل الرئيس ترامب اشارته بالترحيب بإجراء مفاوضات مباشرة مع ايران ومن دون وسيط و أن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في إيران، بل إلى منعها من امتلاك ترسانة نووية حسب قوله ، رغم ان سحب التوتر مازال يغطي سماء المنطقة ، وهو عبارة عن رسائل استقبلتها طهران بتحفظ كبير وكان ردها مغلفا بديباجات دوغمائية عكست الواقع السياسي المتصارع بين الاصلاحيين ـ الذين كانوا في موقف حرج ازاء اتفاقية (5 + 1) النووية واول المتحمسين لها وهم أقل حدة من المحافظين واقرب إلى الجلوس مع ترامب ومن حسن الحظ إن فريق الرئيس روحاني والوزير ظريف، هم من المحسوبين على الإصلاحيين ـ وبين المحافظين الذين كانوا يرفضون عقد هكذا اتفاقية ، ولابد كنتيجة ان يكون الترحيب الايراني متحفظا جدا ومتعاليا ايضا وليس بالسهولة بمكان ان تجلس طهران مع غريم امتدت القطيعة معه لعقود طوال.
واخير ادرك الطرفان ان حربا تقع بينهما هي ليست حربا تقليدية كأي حرب تقع بين دولتين ولكنها ستكون انتحارا جماعيا في منطقة تشكّل قلب العالم ومرتكز امداداته النفطية والبؤرة التي تتشابك فيها مصالح الدول العظمى كروسيا والصين ودول الاتحاد الاوروبي وكل هذه الاطراف لها امتدادات جيوسياسية في الشرق الاوسط ومصالح مشتركة مع دوله واي حرب تقع ستؤدي الى تغيير مناخ الاستقرار الهش في هذه المنطقة التي لم تزل ومنذ منتصف القرن الماضي تعيش فوق صفيح ساخن ومتقلب.
العالم كله يرنو ببصره الان صوب الجهات التي تقوم بوساطة التهدئة بين الطرفين ومنها العراق وسحب فتيل الازمة قبل ان تستفحل الى حرب مدمرة لن تكفي كل فرق اطفاء العالم لاخماد حريقها لا سمح الله ، لذا ليس امام الولايات المتحدة وغريمتها ايران من بدّ سوى الاحتكام الى لغة العقل وطاولة المفاوضات الثنائية البناءة.