توقعات بانحسار التشدّد وانفتاح معتدل على العالم
جواد علي كسار
وضعتنا حصيلة انتخابات الجمعة الماضية في إيران أمام مجموعة مركبة من النتائج، هي صدمة أفول الجنرال محمد باقر قاليباف؛ وأقوى منها صدمة المد الشعبي الكبير لسعيد جليلي رغم فشله في الفوز؛ والأعمق منهما كليهما هي العودة الحيوية الفاعلة للحركة الإصلاحية رغم كل القيود والحدود والحروب والمعوقات، وتحول هذه الحركة إلى سفينة نجاة للنظام برمته، أنقذته ولو مؤقتاً من متوالية الانحسار والتراجع في شعبيته عبر أربعة انتخابات متتالية، وأسعفته في اللحظة الحرجة من التدحرج المتزايد صوب الانسداد والقطيعة المتصاعدة مع القاعدة الشعبية، ولاسيما الجيل الجديد، عندما تداركت الخسائر ورفعت نسبة المشاركة إلى نحو خمسين بالمئة، لتضع حداً ولو مؤقتاً لخرافة الكلام عما بعد الأصولية والإصلاحية، وتوجه ضربة قاضية في هذه الجولة على الأقل، لطموحات أنصار الخط الثالث وقد تحرك بعنفوان وثقة لكي يمسك جميع القوى بقبضته، لكن تيار الحركة الإصلاحية ومن عضدها واصطف من ورائها، وضع حداً ولو مؤقتاً لهذه الطموحات، عندما فشل سعيد وصعد مسعود!.
صدمة الجنرال
من كان يتابع بدقة الواجهات الإعلامية التابعة للحرس الثوري والمحسوبة عليه، مثل صحيفة «جوان» ووكالة «تسنيم»، كان يلمس حجم المؤازرة القوية للجنرال قاليباف في معركته إبّان الانتخابات البرلمانية الأخيرة بتأريخ 1 آذار 2024م، ضدّ منافسيه ولاسيّما جماعة جبهة الثبات (جبهه پايدارى). ومع ذلك فقد أخفق شعبياً رغم فوزه، عندما تدنّت حصته من الأصوات إلى نحو ثلث ما كانت عليه في الانتخابات التشريعية عام 2020م، وتقدّم عليه منافسوه من أنصار «پايدارى». خاض الحرس الثوري ومعه مجموعة وازنة من مراكز القوى السياسية والدينية معركة ثانية لصالح قاليباف في 27 أيار 2024م، لكي يفوز هذه المرّة برئاسة البرلمان، وهذا ما كان.
جاء الفصل الجديد من قصة الجنرال في الانتخابات الرئاسية الأخيرة غير المترقبة بعد حادث تحطّم طائرة رئيسي، وترشيحه نفسه حين اصطفّ لنصرته ليس الحرس الثوري وحده، بل تيار عريض من القوى السياسية والدينية، في إيحاء وإيماء كان يُظهر قاليباف وكأنه المرشّح المرغوب به من أعلى مستوى مراكز القوّة في إيران، حتى شاعت عنه عبارة «مرشح النظام»، وهو أمر لم يكن بعيداً عن شواهد وقرائن جمّة، كلها تؤكد أنه الرجل المرغوب به فعلاً لتبوّء منصب الرئاسة، وأنه البديل النوعي الضدّ لسعيد جليلي، حتى أن بعض الإشارات ذهبت إلى أن المرشد نفسه قد صوّت لقاليباف في الدورة الأولى الجمعة الماضية، وهي شائعة لم يتسنّ لأحد التأكد منها للتكتّم الشديد الذي يحيط تصويت المرشد ولمن يدلي بصوته. لكن قاليباف ذهب في تخييب آمال هذه القوى الواسعة شبه الواثقة من فوزه؛ ذهب بها عريضة عندما جاءت هزيمته أقسى بكثير من تراجع شعبيته في الانتخابات البرلمانية الشتاء الماضي، وأن غريمه النوعي جليلي حصد ثلاثة أضعاف ما حصل عليه قاليباف؛ وهذه النتيجة هي ما أسميها بـ»صدمة» الجنرال.
يحف هذه الصدمة ويحيط بها الكثير من الكلام على مستوى الخلفية والتحليل والنتائج، يرتبط جلّها إن لم يكن كلها، بظاهرة عسكرة الفضاء السياسي في إيران والزحف على بقية المواقع المدنية المؤثرة، ومستقبل هذه الظاهرة، يمكن أن نستخلص منها نتيجة إجمالية مركبة تُفيد بوجود رفضٍ شعبيٍّ لعسكرة السياسة والمواقع السياسية، يوازيه رفضٍ آخر أهمّ هو عدم قبول أكثرية القوى السياسية والدينية معاً، لهذه العسكرة والزحف المستمر على المواقع والاستحواذ عليها، مما يعطي فرصة ثمينة لإيقاف هذه العسكرة، لو كان هناك فعلاً من يستفيد من هذه المناسبة في التقويم والمراجعة.
صدمة جليلي
يمكن القول ببساطة شديدة ومن دون تناقض، إن جليلي وأنصار تياره الشعبي ومن وقف وراءه من القوى السياسية والدينية، قد فاز وإن خسر؛ فاز بالقاعدة الشعبية وإن خسر الرئاسة. فعلى مدار نحو عقد ونصف من طموحات هذا الرجل ومن يقف وراءه ويدفعه صوب الموقع التنفيذي الأول في البلد، لم تكن القاعدة الشعبية له تزيد على ما بين (5 - 6) ملايين، وقد خرج بالانتخابات الأخيرة بأكثر من (13) مليونا، ما يؤشر إلى وجود قاعدة شعبية متميّزة لتيار التطرّف الأصولي لا يمكن الاستخفاف بها قط، بل هي تعطينا دلالات حاسمة على نمو متواصل في قابليات الخطّ الثالث، فاقت جميع التوقّعات.
مع الصعود الشعبي لجليلي وتياره يستعيد الكلام عن الخطّ الثالث أهميته؛ هذا الخطّ الذي نشأ قبل عقود وقد ارتبط مرّة بأحمد الخميني نجل مؤسّس الجمهورية الإسلامية السيد روح الله الخميني، قبل أن تتبدل مرجعياته وتتغيّر مصاديقه تبعاً لذلك، ثمّ تستقر في الخطّ الذي يمثله الآن سعيد جليلي وجبهة الثبات (پايدارى) وأخلاط من تيارات وانتماءات شتى، من بينها تيار النجادية نسبة إلى الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، وقد أعلن صراحةً عن تأييد جليلي ودعوة أنصاره إلى التصويت له في الدورة الثانية.
أما المرجعية الفكرية فتعود نواتها الصلبة إلى الشيخ محمد تقي مصباح يزدي (1935 - 2021م) وأخلاط أُخر كوّنت مخيالاً عقدياً لهذا التيار، يضمّ ضمن تلافيفه أنصار المهدوية وعصر الظهور، وأنصار الثورية النقية والثورة الدائمة، والجماعات المؤمنة بأن العالم يعيش أشراط الساعة وإرهاصات القيامة، وهكذا بلوغاً إلى اندماج بعض أتباع الحركة الحجتية في بُنية هذا الخطّ ومخياله العقدي الشائك المعقّد، وهو يجد واحدا من مرجعياته الفكرية الحالية بالسيد محمد مهدي مير باقري، إذ يُنسب إليه تثقيف أنصار هذا التيار على أن المهمّة الأساسية للشعب الإيراني هي الحركة باتجاه الظهور المهدوي، ووظيفة الحكومة الإسلامية مواجهة الكفر العالمي بحربٍ ضروس مفتوحة، وأن الدولة العصرية ليست ضرورية، وإشكالية الحجاب في إيران ناشئة عن التأثّر بأنموذج التنمية الغربي، وأن شبكة المعلومات العالمية (النت) هي من بساط الشيطان، وهكذا إلى تفاصيل كثيرة (يُنظر في متابعة أفكار الرجل وتأثيره على جليلي، مقال بعنوان: ما هي عقائد المرجع الفكري لسعيد جليلي، موقع خبر آنلاين، السبت 6 تموز الحالي).
أعتقد أن ظاهرة صعود جليلي شعبياً تعكس صدمة عميقة في الواقع الاجتماعي الإيراني، تفوق الأبعاد السياسية على أهميّتها، وتكشف عن عجز تراكمي لتيارات السياسة في إيران في استيعاب الناس، وتؤشر إلى خلل أكبر في البناء الثقافي والتربوي الاجتماعي، عندما يكون هذا التيار الهجين هو حصيلة أربعة عقود ونصف من تجربة الحكم في الجمهورية الإسلامية. (في وقت مبكر يعود إلى عام 2002م فتحت صحيفة كيهان هوائي، ملفاً جديراً بالقراءة عن مخاطر الخطّ الثالث، نُشر في عددها الصادر يوم
الاثنين 27 أيار 2002م).
على أيّ حال أسجّل في حدود الاعتراف الشخصي، أن الصدمتين؛ أفول قاليباف وصعود جليلي شعبياً، من بين ما فاجأني في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، بينما لم أستغرب قطّ صعود پزشكيان، وعودة الفاعلية إلى الحركة الإصلاحية.
ما بعد الأصولية والإصلاحية
شاعت تحليلات جوفاء لا تأريخية تصوّر أن اليمين واليسار، ثمّ الأصوليين والإصلاحيين، هي لعبة من النظام في إيران لإدارة أزماته، وهذا تصوّر اعتباري يستند إلى التحليل الذهني وانتزاعاته المجرّدة، وإلا فلا شيء ينمو في الفراغ، والتيارات السياسية وعلى رأسها اليمين واليسار أو الإصلاحيون والأصوليون، لها مرتكزاتها الوجودية ومناشئها التأسيسية في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي وحتى النفسي للاجتماع الإيراني، كما لها مغذياتها الدائمة في اختلاف الرؤى والسياسات عن وضع البلد وإدارته، ومنظوماتها التنظيرية الضخمة لاسيّما عند الإصلاحيين، ومن لا يدرك هذا المعنى البسيط لا يعرف شيئاً
عن السياسة في إيران.
اليسار واليمين أو الأصولية والإصلاحية، موجودان ليس على نحوٍ سطحي طارئ معلق في الفراغ، أو على نحوٍ ذهني اعتباري، أو إعلاميّ شعاريّ؛ بل لهما وجودهما العميق من خلال مرتكزات حقيقية في الواقع والحياة الإيرانية؛ تفصل بينهما مسافات شاسعة، واختلافات في الرؤى والأفكار ومنظومات التنظير، والإدارة والسياسات ومنهجياتهما، وبينهما غالباً علاقة قسوة بالغة ليس فقط على مستوى إقصاء الآخر وتهميشه، بل نفي أصل وجوده أيضاً إن كان بالمقدور ذلك. وهذه هي طبائع الأمر السياسي، إذ هو في إيران كما في غيرها ممارسة بشرية ودنيوية صرفة بصرف النظر عن الشعارات والمسميات، يزيد من بأسها حين ترتبط بالعنوان الديني، أنها تأخذ من تجارب المسلمين في التأريخ أقسى وأسوأ وأردأ ما فيها.
أجل، لكلّ تيار منهما ظهور وكمون، وسطوة وأفول، وانبساط وانقباض، بالإضافة إلى ما بينهما من اختلافات في الأفكار والأوزان والقاعدة الشعبية. والنظام السياسي يلعب بساحتهما دائماً، يميل إلى واحد دون الآخر، ويقوي أحدهما على حساب الآخر، ويمارس كلّ ما يستطيع ممارسته، لكي يستفيد منهما في تعزيز وجوده وديمومته وبقائه، بأقصى ما يقدر عليه، وهذا ما حصل في الانتخابات الأخيرة أيضاً.
بشأن تأريخية هذه النقطة يُلحظ أن انتخابات الدورة البرلمانية العاشرة عام 2016م، تزامنت مقدماتها مع بروز شعارات داخل الساحة الإيرانية تطالب بتجاوز التيارين التقليديين الأصولي والإصلاحي معاً، بديهي دائماً لصالح الخطّ الثالث بصرف النظر عن تجليات هذا الأخير. ثمّ تصاعدت هذه الدعوات أكثر في انتخابات الدورة التشريعية الحادية عشرة عام 2020م، والرئاسية من بعدها عام 2021م، وقد أغرى ضعف الحركة الإصلاحية وتراجع الأصولية التقليدية وقواها المحافظة وانكماشهما؛ أغرى البعض في ابتلاع الطعم، حتى راح يتحدّث عن موت الأصولية والإصلاحية، وهذا هو الوهم بعينه.
فما حصل في الانتخابات الأخيرة ما كان له أن يحصل من دون موقف فاعل من الحركة الإصلاحية، ساندها التيار الوسطي (ناطق نوري، حسن روحاني، علي لاريجاني وغيرهم) ولم يقف التيار الأصولي التقليدي دون مرادها، إن لم يكن قد ساندها فعلاً.
والهندسة الانتخابية العامة للنظام بحسب فهمي، أن جليلي لم يكن خياره أبداً، فحاصره بالجنرال قاليباف والطبيب پزشكيان، وكان المهمّ أن لا يصعد جليلي، ليكون خيار الرئاسة مردّداً بين قاليباف وپزشكيان، وكلاهما لا مشكلة فيه. لكن الذي عطّل المعادلة هو انحسار أصوات قاليباف والصعود الصاروخي المدوي لجليلي، فكانت إيماءات ورسائل وربما اتفاقات صامتة وجاهرة علنية وسرية في أن لا يصل جليلي إلى كرسي الرئاسة في قصر باستور، وهذا ما حصل وضمن للنظام المكسبين معاً؛ صعود شخص رضي مقبول، ووجه جديد غير محترق في رمزيات السياسة العليا (صفر كيلومتر)، والأهمّ من ذلك رفع مستوى المشاركة، وإن كان حجم المقاطعة لم يزل كبيراً.
القطيعة الجيلية
لا تكمن المشكلة كلها في الواقع السياسي وحده ومدى فاعليته، بل هناك ما يطلق عليه في إيران بالقطيعة الجيلية، ودورها في العزوف عن المشاركة. وقد قدّم علماء الاجتماع أطاريح كثيرة فيها الكثير مما هو نافع في معرفة خلفيات المشكلة وواقعها، والحلول المقترحة للعلاج.
سأقتصر على أنموذج واحد يستند إلى منهجية تحليل الخطاب. يذهب أصحاب هذا التحليل إلى أن الثورة الإسلامية في صميمها هي مشروع هوياتي للشيعية الإيرانية، استقرّت في لحظة الانتصار عام 1979م في نطاق خطاب (نظام فكري) مكوّن من عناصر خمسة، هي باختصار: العدالة العلوية، العودة إلى الذات، التنمية الذاتية المستقلة عن الإمبريالية، مواجهة مفتوحة مع الغرب وبخاصةً أميركا، ومناهضة النهب الإمبريالي الغربي (يُلحظ التماهي شبه الكامل مع الخطاب الماركسي اللينيني!).
هذه العناصر تحوّلت إلى خطاب الحدّ الأدنى والمتحد الجامع للقوى والتيارات كافة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في إيران، وقد استمرّت كذلك إلى نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، عندما بزغت بدايات الجيل الجديد وتنامت إلى اللحظة الحاضرة، بعد أن واكبت تحوّلات أساسية اقتصادية وثقافية مع رفسنجاني وخاتمي حتى الوقت الحاضر. باختصار شديد، ما حصل وفق منهجية هذا التحليل، هو أن الجيل الجديد تجاوز الخطاب المذكور، عبر عناصره الخمسة المكوّنة، بحيث غدا تدين المتديّن من أبناء هذا الجيل شخصياً غير هوياتي، قرينا بضرب من المرونة والتساهل، وبشمّة من المعنوية والعرفانية، ليس له استعداد لتوظيف التديّن في السياسة، ما أدّى إلى اضطراب العلاقة بين الأجيال الجديدة والنظام؛ على قاعدة تغاير الخطاب أو على الأقلّ اختلافه بين الاثنين، فقاد نهاية المطاف إلى وجود
القطيعة الجيلية.
بين يدي ملف مطول عن هذه القطيعة بمنظورات اجتماعية متعدّدة ومساهمات منوّعة، من جملته محاورات مختلفة في المستوى والعمق وأدوات التحليل مع (محمود نجاتي حسيني ومحمد علي الستي والراحل عماد أفروغ ونعمت الله فاضلي وحامد حيدري ومحمد فاضلي ومجيد إمامي وسعيد حاج نصيري ومجيد أبهري وإبراهيم فياض ومحمود حريرچي وعباس عبدي وتقي آرامگي وصادق زيبا كلام وسعيد ليلاز ومحسن رناني) وغيرهم كثير يزيد عددهم على العشرات، وجلهم من المختصين الاجتماعيين.
لقد اتفقت كلمة هؤلاء جميعاً على وجود القطيعة الجيلية وسعتها وعمقها، كما اختلفت أيضاً الحلول المطروحة وخيارات الحلول وتفاوتت بين من يرى إمكان المعالجة وتقليص الهوّة، ومن ذهب إلى أن الأمر قد تأخّر كثيراً، والدورة سائرة لا محالة إلى مدياتها القصوى والأخيرة، التي ينتهي إليها كلّ طرف من طرفي المعادلة في مثل هذه القطائع؛ النظام إلى المزيد من القمع والمعالجات الأمنية المقرونة بالقوّة العسكرية، مما يؤدّي إلى المزيد من انكماشه وتقلص قاعدته الشعبية، والأجيال الجديدة إلى المراوحة بين التحدّي والمواجهة أو الممانعة ومظاهر التمرّد غير المباشر والعصيان المدني، والأخطر من ذلك اللاأبالية.
عند هذه النقطة تحديداً نعود إلى انتخابات الجمعة الماضية، وكيف أنها تحوّلت بصعود نسبة المشاركة وزيادة الناخبين، إلى فرحة عظيمة للنظام غطّت على هزيمة رمز من رموزه مثل قاليباف، وأذعن بالتالي إلى انتصار پزشكيان حتى لو كان الثمن عودة الحركة الإصلاحية إلى قلب السياسة في إيران.
لكن السؤال الأساسي، سيبقى: هل يوقف الانتصار السياسي هذا، القطيعة الجيلية اجتماعياً والصراع بين خطابين وجيلين؟.