يزخر التاريخ بالكثير من الثورات ضد الظلم وطغيان السلطة، لكن ثورة الإمام الحسين تنفردُ بأنَّها قدمت للعالم دروساً في التضحية والفداء من خلال تضحية الثائر بأعز ناسه، ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيّته، وإدخاله الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما.
والحسين أدى واجبه الديني والسياسي على أتم وجه، وزرع لدى الناس روح المروءة، وبعث في أنفسهم قوة الإرادة في سبيل الحق والحقيقة، وأثبت لجميع البشر أنَّ الظلم والجور لا دوام لهما، وأنّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلاّ أنّه لا يعدو أنْ يكونَ أمام الحقّ والحقيقة إلاّ كريشةٍ في مهب الريح.
ولقد وجدنا في قراءتنا لما كتب عربياً وعالمياً، أنَّ ثورة الإمام الحسين تنفردُ بتعدد النظريات التي تفسرُ أسبابها، والشائعة منها تمنحها هويَّة سياسيَّة أو إسلاميَّة، بينما الهويَّة الحقيقيَّة لها أنَّها أنموذجٌ استثنائيٌّ للاقتداء بثورة أخلاقيَّة.
فلو كانت سياسيَّة فإنَّ هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة، بينما الحسين كان يعرف أنه مقتول.
ولو كانت إسلاميَّة لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير إسلاميين بينهم غاندي.
فضلاً عن أنَّ الحاكم كان يحتاج الى الدين لبقائه في السلطة؛ ما يعني أنَّ ثورة الحسين ما كانت من أجل طائفة، بل من أجل أمّة، ولهذا ارتقت لتكون قيمة إنسانيَّة وقدوة ضد كل استبداد بالسلطة واستفراد بالثروة.
وما يدهشك أنَّ ثوراتٍ عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسية، بينما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم أنَّ القائم بها كان رجلاً واحداً، وأنه مضى عليها أكثر من ألف وأربعمئة عام، والسبب هو أنَّ موت الضمائر وتهرؤ الأخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على أمرها.
فتغدو القضية صراعاً أزلياً لا يحدها زمان ولا مكان، ولا صنف من الحكّام أو الشعوب.
ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفاً متفرداً لقضيَّة إنسانيَّة مطلقة، ما دامت هنالك سلطة فيها: حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل.
واستشهاد الحسين كان تراجيدياً من نوعٍ فريد، ليس فقط في الموقف البطولي لرجلٍ في السابعة والخمسين يقف بشموخٍ وكبرياءٍ أمام آلاف الرجال المدججين بالسيوف والرماح المنتظرين لحظة الإيذان بالهجوم عليه وقتله، ورفضه عرضَ مفاوض السلطة بأنْ يخضعَ لأمرها وله ما يريد، وردّه الشجاع بصيحته المدوية: (هيهات منّا الذلّه)، بل ولأنَّ المشهد كانت فيه نساءٌ وأطفال، وكأنَّ الحسين أراد أنْ يثبتَ للبشريَّة أنَّ بشاعة طغيان السلطة في أي نظام بالدنيا، تتجاوز وحشيَّة الحيوانات
المفترسة.
وقيمة أخرى ينبغي أنْ نقتدي بها نحن العراقيين هي أنَّ الحسين كان بإمكانه أنْ ينجو وأهله وأصحابه بمجرد أنْ ينطقَ كلمة واحدة: (البيعة)، لكنَّه كان صاحب مبدأ: (خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي) والإصلاح مسألة أخلاقيَّة، ولأنه وجد أنَّ الحق ضاع: (ألا ترون أنَّ الحق لا يُعمل به)، ولأنَّ الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة، وكلها مسائل أخلاقيَّة.
وما انفرد به الإمام الحسين في موقف ينبغي أنْ يكون لنا الآن قدوة هو أنَّه كان عليه أنْ يختار بين: أنْ يوقظ الضمائر ويحيي الأخلاق، أو أنْ يميتها ويبقى حياً، فاختار الموت، وتقصّد أنْ يكون بتلك التراجيديا الفجائعيَّة ليكون المشهد قضيَّة إنسانيَّة أزليَّة بين خصمين: سلطان جائر وجموع مغلوب على أمرها.
بهذه القيم ينبغي أنْ نقتدي بإمامنا الحسين، أنْ نجسدها عملياً في سلوكنا، في دعوتنا لتحقيق العدالة
الاجتماعيَّة وضمان حرية وكرامة الإنسان التي أكد عليها الإسلام، وليس بكثرة الدم المسفوح على الكتفين من ضرب الزنجيل، أو شدة احمرار الصدور من اللطم عليها، أو غزارة الدموع في بكاءٍ مستمرٍ، أو تلطيخ الرأس بالطين، فبتلك القيم نكون قد قدمنا للعالم قدوتنا إمامنا الحسين، وبها أيضاً نبنبي وطناً هو الأغنى والأجمل في المنطقة، ولشعبه الأذكى في المنطقة
أيضاً.