وين رايحين

الصفحة الاخيرة 2024/07/14
...

محمد غازي الأخرس


ويقولون: وين رايحين؟ في كناية للتحذير من مسار سيء يلفنا ويلفلفنا في طياته. العبارة شاعت في سنوات ما بعد ٢٠٠٣ تعبيراً عن الخوف من المستقبل، بسبب شيوع الفساد وقيم الكراهية وإلغاء الآخر بحيث أصبح الانحدار رهيباً من سيئ إلى أسوأ. بل لكأننا في وضع أشبه بكرة ثلج هائلة تتدحرج بأقصى سرعة من أعلى جبل من دون إمكانية لإيقافها. عبارة "وين رايحين" هذه استخدمها صديقنا المخرج ذو الخيال الجامح حيدر منعثر عنواناً لمسرحية أخرجها، من تأليف خالد جمعة. مسرحية جميلة عرضت مؤخراً على قاعة مسرح الرشيد، بأداء فريق مبهر يتكون من طلال هادي وزهرة بدن ولؤي أحمد ولمياء بدن وإياد الطائي وأمير حسام، مع قارع الطبول وسام بربن. بالنسبة للؤي أحمد مثلا، فهذا الممثل الرائع يستحق وقفة وحده ولعلّي فاعلها قريباً.
 أما المسرحية، فتقوم على فكرة بسيطة؛ ركاب يتقاسمون حافلة تقطع بهم البراري إلى المجهول. "عبريه" مكنودو الحظ وقعوا تحت رحمة سائق شبه مجنون، يتجه بهم إلى المجهول. خزان وقود سيارته ينضح، وهو يتلاعب بهم ويشترط عليهم أن يحكوا له قصصاً تمتعه حتى يعاود القيادة، وإلّا فإنّهم سيفقدون فرصة الوصول إلى أي مكان. فكرة استعارة السيارة لدولة ما أو لوضع مجتمع معين ليست جديدة، فالسياب اختصرها بعبارة لا تنسى شبه فيها عراق الخمسينات بأنه "سيارة إسعاف سائقها أعمى"، والرحابنة، في مسرحية "ميس الريم"، جعلوا لبنان سيارة مكشوفة، عاطلة تشكو منها فيروز بأغنيتها الرائعة: هالسيارة مش عم تمشي.. بدنا حدا يدفشها دفشه.. يحكوا عن ورشة تصلح.. وما عرفنا وين هي الورشة، يغيب نهار يطل نهار.. والناطر ناطر عله نار..يجي مختار يروح مختار والسيارة مش عم تمشي. هذا بالضبط ما يجري في العراق منذ أن تأسست دولته الحديثة. بلد هو عبارة عن حافلة يقودها سائق مجنون يمكن أن يقلب بالركاب الحافلة في أية لحظة.
أين المسار يا حافلتنا المخيفة؟ لا جواب ولا خريطة، إنما هو مسار فوضوي يتحكّم به مزاج الحاكمين وأيديولوجياتهم، انقلابات، مؤامرات، حروب خارجيَّة، حروب أهليَّة، قمع داخلي، صراع طائفي، وانعدام ثقة بين مكونات وملل ونحل. هذه هي الفكرة العامة للمسرحية، أما في التفاصيل، فثمة حكايات يقدمها ركاب الحافلة، حكايات تزخر بالمفارقات، وبقدر ما يبدون أبطالها، فإنهم ضحاياها. في العمل، يقدم الركاب حكاياتهم، ويقدم السائق هو أيضاً حكايته، ليبدو مقاداً هو الآخر ومستلب المصير. بمعنى أن أبطال الطريق المجهول هم ضحاياه في الوقت نفسه، هكذا هو الأمر، المتحكمون بالطريق المجهول هم ضحاياه دائماً.
 نعم، عمل جميل أعاد لنا حيدر منعثر الذي عرفناه في الثمانينيات والتسعينيات كأحد مسرحيي جيل تجريبي ترك أعمالاً لا تنسى  وأسهم في صنع أجنحة لعربة مسرح متعثرة، جيل حلَّق بالعربة في وقت توقع الكثيرون أن تتعطّل مثل عربة العراق وفيروز والسيَّاب. أحببت "وين رايحين" كثيراً، فقط تمنيتُ لو كان حيدر منعثر قد اختصر بعض لوحات العمل أو خفف من خطابها التعبوي.
تصفيق بأكف القلب لفريق المسرحية.