عماد جبار
مثلما قلت فزنا أنا وعارف الساعدي وقاسم زيدان وبقية اصدقائنا
بإحدى عشرة جائزة من بين 19 في مسابقة مجلة {الصدى} الاماراتية عام 2000 وكانت تلك السنة الأولى لهذه المجلة، وأرادت عبر المسابقة أن تعلن عن بدايتها وتروج لنفسها.
نضدتُ قصيدتي في باب المعظم في بغداد، حيث مجمع المكتبات ومحلات الاستنساخ بنسختين وأرسلتها بالبريد، ولم أكن على يقين من أن يكون هناك فوز، لأن دول الخليج آنذاك، كانت ضد العراق.
القصيدة كانت عن العراق، لكني كتبتها لأبي الذي كان بالنسبة لي رمزاً للعراق، أبي الشيوعي الذي انتمى إلى الحزب منذ بداية الخمسينيات وظل وفياً له إلى موته. مرة كان أبي جالساً في أحد المهرجانات أو الأماسي ضمن الحاضرين في اتحاد الأدباء وكنت أقرأ القصيدة وأنظر اليه، وكنت أقرأ وأراه شامخاً.
أبي كان ولم يزل المجرى الذي زوّدني بكل المشاعر الوطنيَّة. في الليل عدتُ إلى البيت وصعدتُ إلى غرفتي فكتبت القصيدة: "نيسان عاد/ وأنت تخفق في كتابي/ عش مالئاً قلبي وممتلئاً بما بي/ يا والد الأنهار/ يا شيخ الجبال السمر/ يا شجر الروابي/ يا سفح روحي إن بكت روحي/ ودثرني ضبابي/ لا قلب إلا راحتاك تضمني/ وتجير نافذتي وبابي".
لم أَرَ ضيراً في التغيير في القصيدة، أولا لأنها قصيدتي، وثانيا لأني أًردت أن أحصل على الجائزة وأتملّص من المواقف السياسية الظالمة التي أحاطت بالعراق. وفي أحد مساءات شباط جاءني صديقي الشاعر عباس فاضل عبد إلى البيت وبشّرني بالفوز .
الفوز عنى الكثير لي ولزملائي، فكان نجاحا فردياً وكان فيه شعور بالفخر أننا نمثل العراق وثقافته. إنهالت علينا التهاني في الشوارع والملتقيات والكافيهات وتعرّضت شخصياً لمواقف محزنة أيضاً بسبب هذا الفوز. أحد الأدباء بشّرني قبل أيام بفوزي بجائزة الإبداع التشجيعيّة لوزارة الثقافة العراقيّة، لكنه عندما علم بجائزة "الصدى" تلك جلس على الكنبة التي أجلس عليها في مقهى حسن عجمي يوم جمعة وبوقاحة عجيبة كان كأنّه لا يعرفني .
كان من المخطط له أن نكون في عمّان يوم الجمعة لنغادر منها إلى دبي كي نحضر احتفال تسليم الجوائز في فندق برج العرب، وهذا كان يعني لنا الكثير نحن المحاصرين الفاقدين للفرص المادية والثقافية والخروج من المحلية .
جمعت مالي المتبقي من جائزة الإبداع واستدنت من صديق لي بعض المال ومن أصدقائي من تبرّع لي بحقيبة من أيام حجاج السبعينات وقد أخجلتني كثيراً في المطارات وأنا أبصر الحقائب الجديدة في أماكن تسلم الحقائب.
أتى الاربعاء ولم أكن قد تسلّمتُ جوازي وكان يجب أن نسافر الخميس كي نصل عمّان الجمعة. ذهبت الى الجوازات وقيل لي إن عليَّ أن أتسلّم الجواز من دائرة أخرى للجوازات مما تطلب أن أرشي الشرطي المعتمد وآخذه في تكسي لكي يتسلمه ويعطيني إيّاه. لم أملك أكثر من دولار ونصف والوقت لا يكفي أن أعود الى أهلي الذين كانوا في وضع مادي بائس. جلستُ مسنداً ظهري إلى الحائط ضائعاً لا أعرف من أًين آتي بما يعادل ثلاثة أو أربعة دولارات. ذهبتُ الى صديق ميكانيكي سيارات قريب من الجوازات لكنه أقسم أنه لا يملك ذاك المبلغ. عدت ماشياً الى الجوازات وجلست القرفصاء خافضاً رأسي إلى الأرض ممتلئاً بالخذلان أني عراقي وأن وزارة الثقافة لم تعفنا من الرسوم وأننا نمثل هذا الوطن .
فجأة بزغ صديق من المجهول، درسنا معاً في الجامعة، وكان ينوي الذهاب في إيفاد رسمي عن طريق وزارة الصحة. سلمتُ عليه وسألتُ عن أخباره وبعد الانتهاء قلتُ له: "يمعوّد" أنا في ورطة وأريد مالاً لكي أتسلم الجواز وليس لديَّ سوى ما يعادل دولاراً ونصفاً فأعطاني على ما أذكر ما يعادل ثلاثة دولارات فقلت: زدها، لكنه قال ليس لديه أكثر.
أخذت الشرطي المعتمد ورشوته وعدت إلى البيت فرحاً بالجواز الذي في يدي .
في اليوم التالي أوصلني صديق بسيارته اللادا الى باب المعظم فرأيت عارف منتظراً مقابل المعهد الطبي وجاء بعدي قاسم زيدان وانطلقنا .
صعدتُ السيارة الشيفروليت الخط السريع وأبكتني بضع نخلات قرب مقام السهروردي ونساء بعباءات سود يمشين على التراب.. وغنيت كثيراً في الطريق مثلما لم أغنِ من قبل بعد ساعات نزلنا لكي نأكل وجبة كان الهواء فيه بعض البرودة، ولم أكن قد تنفست مثل هذا الهواء من قبل. أحسست أن رئتي اتسعتا كثيراً وأن الهواء كان يحملني .
دخلنا عمّان في الصباح الباكر وكانت مدينة مذهلة بالنسبة لي ذلك الحين، الجبال المحيطة بوسط المدينة، البيوت على السفوح، والأضواء المتبقية من الليل، تغريد الطيور، سير الناس الى أعمالهم باتجاه الكراجات. كل شيء كان جديداً: ملابس الناس.. حجر البيوت.. حميميَّة الشوارع في وسط المدينة. صعدنا إلى مقهى السنترال وكنا حذرين من الأدباء المعارضين، لأننا تشرّبنا بالحملات الدعائيّة ضدهم في الداخل، تلك التي يدفعها النظام الى التداول. بُتْنَا الليلة في فندق رخيص، وانطلقنا الصبح إلى المطار وما هي إلا سويعات واستيقظنا في مطار دبي غير مصدقين، أننا في أرض أخرى. جلسنا أنا وعارف وقاسم جنب بعض في طائرة الخطوط الإماراتية، حيث المضيفات المبتسمات، وحين طارت بنا الطائرة كنا ننظر في وجه بعضنا البعض قائلين "هل حقيقة ما يحدث لنا".