تحت عمود النور

الصفحة الاخيرة 2024/07/21
...

محمد غازي الأخرس
يا إلهي كم أزعجني ذلك وأحبطني؛ تورطت بمتابعة حلقة بودكاست مع "صانع محتوى" شاب، ينتهج أسلوب "التحشيش" بتسميات الجيل الحالي، أو ما يزعم هو بكونه نقداً اجتماعياً ينحو منحى ساخراً. الشاب لطيف ويتحدث باسترخاء وثقة، لكنه ارتكب خطأ فادحاً، حين سخر سخرية لاذعة من جيل أبيه، أقول "سخر" تخفيفا لما سمعت، وإلا فإنه أغرق في الضحك على ذلك الجيل وقيمه وتجربته المريرة في الحياة. كان صاحبنا بصدد تفكيك ما يحسب أنها أوهام يعيشها الجيل السابق، وهو ينسج سردية ما عن حياته ويجهد لتغليفها بقداسة خادعة، أو بمبالغات لا مبرر لها ولا يمكن أن تصدق إلا بكونها قصصاً كارتونية. يقول إن جيل الآباء كلما ناقشوا أبناءهم في عدم تفوقهم في الدراسة، كرروا أسطورة أنهم كانوا يدرسون ليلا تحت أعمدة النور، ويعلق على ذلك "محششا" بأن جميع الآباء يكررون الحكاية، حتى كأنهم كانوا يدرسون تحت عمود النور نفسه. يضحك ويضحك معه المقدم، ثم يغرق في الاستهزاء ليكشف عن جهل مدقع في فحوى الفعل، ولماذا كان أبناء الجيل الفقير يمارسونه، يقول صانع محتوانا الفهيم: ليش جوه التيل؟ ليش مو بالبيت؟ وليش بالليل؟ ليش مو بالنهار؟ ليش ما يشغل "لالة" ويقرأ؟ 

الحقيقة أنه لا يعرف فحوى الحكاية ولا دلالاتها، لأنه لا يملك فهماً اجتماعياً لما كان عليه سياق الفعل المذكور. وحتى يفهم هو وغيره من أبناء الجيل الحالي "المرفه"، الذي يتوفر لديهم ما لم يتوفر لذلك الجيل، يتوجب القول إن أولئك المساكين كانوا يضطرون للدراسة في الشارع، تحت أعمدة النور، لأن البيوت كانت كأقنان الدجاج وبالكاد تستوعب من فيها. تخيلوا أن في بعض بيوت مدينة الصدر مثلاً، كانت تسكن ثلاث وأربع عائلات بمساحة (144) متراً.

إن ذلك ليصعب حتى على خيال من يعيش في منازل واسعة كمنازل هذه الأيام، وبعدد عائلات لا يقارن بعدد تلك الأيام. في تلك المرحلة، كان المساكين لا يجدون مكانا يلم أجسادهم ليناموا إلا بالشافعات. كان يمكن لخمسة أولاد من الجنسين، أن يناموا مع أبويهما في حجيرة صغيرة، "الهول" يمتلأ عن آخره و"الديوانية" كذلك. في بيتنا الكبير قياسا لبيوت مدينة الصدر، كان أولاد عمنا الذين يصادف أن يبيتوا عندنا أحيانا ينامون في المطبخ، فأين يا ترى يجد فلانا أو علانا مكانا ليدرس فيه وهو المقبل على امتحانات البكالوريا؟. 

صاحبنا "الساخر" يتضاحك هو والمقدم ويسأل: ليش الا بالليل يقرون تحت التيل؟ هو لا يدري أن أغلب أبناء ذلك الجيل كانوا يعملون نهاراً بعد الدوام، حمالين في الأسواق أو عمالاً في المخابز والأفران، باعة ماء ولبن في الكراجات، أو عمالة في الإجازات. يفعلون ذلك ليسندوا ظهور آبائهم المكسورة، أو يفرحوا أمهاتهم اللواتي يحرن يومياً بالمصروف. ليست هذه المقالة إنشاءً أو دوراناً عاطفياً حول أسطورة تميز جيل على جيل، كلا وحق الكعبة، هو واقع حال عشناه ولطالما كرهنا استذكاره أو تكراره لهذا الجيل. هو الحقيقة التي لمسها أبناء جيلي كما تلمس يد رقيقة جمرة متقدة. تفهموا ذلك الجيل يرحمكم الله وتخيلوا قصصه رغم صعوبة ذلك. 

أما خلاصة الحكاية فهي التالية؛ أسوأ ما يمكن تخيله أن يسخر ولد من حكاية أبيه. إنه فعل لا أخلاقي، يقارب القتل الرمزي، خصوصا أن أبناء اليوم هم نتاج آباء تلك القصص المريرة، فتأمل رعاك الله.