تماضر كريم
أثناء قراءتي التعليقات عن منشور يخص مسلسلاً مصريّاً عُرض ربما في التسعينيات، وكان من تأليف الكاتب والسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة، ورغم الشهرة الكبيرة التي حظي بها المسلسل والنجاح اللافت الذي حقّقه، لاحظتُ أن جميع الذين علقوا، كانوا يعبّرون بوضوح عن تذمّرهم من الأحداث الحزينة في المسلسل والبؤس والنكد على حد تعبيرهم.
لا أخفي أني فوجئت بآرائهم تلك، وهذا جعلني أتساءل عن أمرين، الأول هو كيف أن قصةً مثل مسلسل "الشهد والدموع" لا تترك فينا بعد كل تلك السنوات سوى الاحساس بالبؤس والاكتئاب، والسؤال الثاني بشأن ما إذا كان من إلهام أن يكون الفن مُبهِجاً، أو في أقل تقدير متوازناً، من ناحية المشاعر التي يثيرها عند المتلقّي.
لم تكن تلك التعليقات على ذلك المسلسل وحدها هي اللافتة، غيرها وفي أماكن كثيرة أجد نفوراً شديداً لدى الناس من الأغاني ذات الشجن الموغل في العمق، والأعمال الدرامية الحزينة حتى الغربية منها، والروايات ذات الطابع الكئيب، وذلك يشمل السأم من مؤلفيها، والممثلين الذين يؤدون أدواراً درامية مبكية فيها.
هل هذا يعني أن على الأديب أن يعيد النظر في تأليفه أعمالاً تضرب على وتر العاطفة بكل زخمها الوحشي، وهذا ينطبق على صُنّاع الأفلام، ومنتجي المسلسلات، وإلى آخر ما ينتجه الفن، لأن آخر ما يريدونه هو أن يكونوا في تلك الخانة الممجوجة من ذاكرة المتلقي؟، المتلقي الذي لا يحب أن يخرج من مشاهدة فيلم، أو بعد قراءة نص وهو محمّل بأحاسيس كئيبة وانطباعات موجِعة.
لكن ماذا عن متعة الكتابة بمعزل عن ذوق المتلقي، أليس على الفنان أن يقول كلمته ويمضي، وهو بالنتيجة ليس مسؤولاً عن بهجة المتلقي وسعادته، كما أنه ليس بوسعه تفادي التسبّب بالألم له، وكأنّه يريد القول إنّ الفن هو شجاعة مواجهة الوجود بكل الحزن الكامن فيه.
أظن أنَّ كليهما على حق، المتلقي الذي يريد فناً متوازناً ممتعاً، والفنان الذي يريد أن يُسبّب الوجع بأقصى درجاته الممكنة.
لكن الأمر ليس سهلاً كما يبدو عليه لأنه منوط بوعي قارئ وكاتب، متلقٍ وفنان.
لا يمكن القول أبداً أن المتلقي الذي يأنف الاكتئاب في الفن هو الأقل وعياً، قد يتم النظر للأمر على هذا النحو، لكن ربما هو العكس، لأن الجميع يعلم أن تضخيم العاطفة والعزف على وترها حتى لو تمّ بطريقةٍ فنيَّة فإنّه لا يعدو كونه استدرار مشاعر بطريقة سهلة وربما حتى مبتذلة، وتبدو هنا رواية ألف شمس مشرقة للكاتب الأمريكي الأفغاني خالد حسيني، كمثال جيد عن الأدب الموغل في التراجيديا المريرة، إذ رغم تسويق الرواية كعمل روائي عالمي، لكنّها باستثناء الربع الأول منها لا تعدو كونها رواية دراماتيكية، تعزف على وتر العاطفة، مُفجّرةً مشاعر الحزن والعطف والألم وأخيراً بعض الأمل، إنّها رواية جيدة، تصور حقبة تاريخيّة مهمّة من أفغانستان، لكن صوت الحزن والتاريخ فيها كان أعلى بكثير من صوت الفن، هنا أنا لا ألوم القارئ الذي يفضل عليها رواية فنية، لا تلعب فيها العواطف البسيطة دوراً مهماً، لكنّها مؤثرة في ذات الوقت، وتلك هي المعادلة، كيف يتجاوز الفنان دوره البسيط كمثير ومهيّج للعواطف إلى دور أعلى وأسمى وهو إثارة دهشة المتلقي فضلاً عن تساؤلاته.
هذا كلّه لا يعفي القارئ من المسؤولية. القارئ غالباً كسول ومدلّل، يتوقع دائماً أن يحصل على ضالته من المتعة، غير ملتفت إلى أنّه أحياناً أسير قناعات سابقة، أو قراءات أو توجهات مجتمعية أو أيديولوجيات أو حتى مزاج شخصي، وهو يحاكم النصوص تحت تلك المؤثرات ويتفاعل معها على أساسها كذلك.
اذا أردنا من الفنان أن يكون متجرّداً من أي قناعة سهلة جاهزة، أو رؤى نمطيّة مستهلكة، وبطريقة تمكّنه من إثارة العقل بالدرجة الأولى، متجاوزاً عتبة العواطف التي يمكن لأي كاتب بسيط إثارتها عبر رسم مشاهد مفعمة بالحزن كما هو معتاد لدى كتاب الدراما مثلاً، أو شعراء النعي، وسواهم من مؤلفي القصص الاجتماعية الضاجّة بالألم، لا بدّ أن يكون لدينا متلقٍ متحرر وموضوعي، لا يبحث عن معنى الحزن والبهجة في الفن بقدر بحثه عن الجمال الصرف بشتى ألوانه وأشكاله، وإلّا فإنّ الفن في جانبٍ منه سيتعرض للثلم والتخرّصات، وسيستمر وصفُ عملٍ ما مهما كان ناجحاً بأنه سوداوي وكئيب.