الكاظميَّة

الصفحة الاخيرة 2024/07/25
...

د. طه جزاع
ليس من السهولة أن تُلخِص حياة مدينة مثل الكاظميَّة خلال قرن كامل من الزمان، إلا أن كنتَ مرتبطاً بها منذ ولادتك، ومن ثم طفولتك وشبابك ومسيرة حياتك كلها، وتنفستَ عطرها الروحي، واستمعتَ إلى أحاديث مسنيها وذكرياتهم قبل أن تذهب إلى عالم النسيان. وهذا ما فعله علي عبد الأمير الزبيدي في كتابه "شذرات من تراث الكاظميَّة في القرن العشرين"، هذه المدينة المقدسة التي يمتد تاريخها لما يقرب من 1256 عاماً، وتطهّرت ثراها بضريح الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد عليهما السلام. 

يقع الكتاب في فصول ثلاثة: علماء وفقهاء الكاظميّة، الدولة ورجال السياسة، والحياة الاجتماعية والمهنية للمدينة. غير أن التداخل الذي لا مناص منه في الكثير من القصص والحكايات والأحداث، جعل فقرات كل فصل من الفصول وكأنها نسيج واحد، وهي تزيد عن المئة وعشرين تناولت تعريفات بشخصيات لعبت أدواراً مشهودة في التاريخ الوطني أمثال الشيخ مهدي الخالصي والسيد محمد الصدر ومحمد فاضل الجمالي وصادق البصَّام وعبد المحسن الكاظمي، فضلاً عن شخصيات اكاديميّة وثقافيّة وفنيّة ورياضيّة وشعبيّة أمثال علي الوردي وحسين علي محفوظ وفرحان باقر وحكمت عبد الرسول ونزار باقر الحسني وإبراهيم خليل الشمري والحاج عباس الجصَّاني ونازك الملائكة وجعفر السعدي وغيرهم مما لا يتسع المقال لذكرهم. كما تناولت تلك الفقرات مختلف أوجه الحياة في المدينة، من المواكب الحسينيّة وخطباء المنبر الحسيني ومجالس العزاء ومواكبه، والصحافة والتصوير الفوتوغرافي، والصيرفة، والعمارة، ورجال القانون والمحامين، والمعلمين والمدرسين، والمكتبات العامة والخاصة، والمجالس الأدبيّة، ومتعهدي الحج والعمرة، والقابلات المأذونات، والدفن والدفّانة، والحمّامات العامة، والصناعات الشعبيّة مثل صناعة السيوف وصياغة الذهب والفضة والغزل والنسيج.

بين دفتي كتاب الزبيدي نلمح عدداً من الإشارات حول شخصيات تستحق الذكر لما لعبته من أدوار مؤثرة في الحياة السياسيّة ومنهم الجمالي المولود في الكاظمية عام 1903 الذي كتب في رسالة شخصية أن تناول حياته كلها يستغرق سنوات يصعب استعراضها "عمري فوق التسعين، خبراتي ثمانون سنة من الدراسة والتدريس والسياسة"، ومنهم أيضاً عبد الرسول الخالصي وعبد الكريم الأزري وعبد الصاحب العلوان وعبد الحسين الجمالي وباقر أحمد الحسني نائب رئيس تشريفات البلاط الملكي. كذلك يولي اهتماماً خاصاً بالطبيب الجراح فرحان باقر "طبيب الرؤساء الأربعة" وبقية الأطباء المشهورين حكمت عبد الرسول ونزار باقر الحسني وإبراهيم خليل الشمري. وفي مجال النحت والرسم والحفر على الخشب تبرز أسماء الفنانين محمد غني حكمت وخليل الورد واتحاد كريم وهاشم الورد ووضاح الوردي وإبراهيم النقاش، والنحّات عبد المطلب مهدي عبود الطائي الذي وفر للمؤلف الكثير من الصور المهمة والنادرة.

كما نقرأ بعض المعلومات الطريفة، ومن ذلك صانع السيوف عبود الجواهري، ووالده هو صانع السيف الذي تقلده فيصل الأول يوم تتويجه. وان ستائر قصر الخديوي إسماعيل في مصر تم نسجها من الحرير الخالص في الكاظمية. وفي اشارته الى النقل النهري يذكر أشهر أصحاب القفف "قوارب دائريَّة من قصب البردي تطلى بالقار" وهو حميد بنانة الذي قضى غرقاً في نهر دجلة ذات ليلة عاصفة منتصف ستينيات القرن الماضي. ومن ظرفاء المدينة كامل العايد وكان مراقباً بلدياً وشاعراً شعبياً وصاحب نكتة، شاهد تزويراً لصالح أحد المرشحين في انتخابات عام 1954 فوقف وسط المركز الانتخابي وصاح بصوتٍ عالٍ: "هَي باط هَي بيط، صارت خرابيط، تلعب بالبلد حفنة زعاطيط"!.