زوري ولفات لبلبي

الصفحة الاخيرة 2024/07/28
...

محمد غازي الأخرس

لن أنسى ما حييت تلك العزومة التي جاءتْ عفو الخاطر؛ كنتُ في الخامس الابتدائي بمدرسة الشهيد عبد الكريم في قطاع (60) بمدينة الصدر. ذات يوم، عرض عليَّ صديق أن أرافقه بعد نهاية دوام اليوم التالي إلى بيتهم القريب من المدرسة، والبقاء معه للمراجعة. أتذكر جيداً اسم الولد لأنّه مميز ونادر، (مرعي)، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أدعى كضيفٍ إلى بيت صديق.
في اليوم التالي ذهبنا إلى بيتهم ودخلت خجلاً أتعثر. أثناء دخولي، ضربت أنفي رائحة زوري يُقلى في حوش الدار. اعتاد الناس آنذاك على قلي الأسماك الصغيرة التي يعشقها الجنوبيون في الحوش تجنّباً لرائحة الزفر، وكانوا يتناولون الوجبة في الحوش أيضاً أو في الطارمة إذا كان البيت كبيراً، وأحياناً يفرشون حصيراً قرب التنور في سطح البيت ليتناولوا الوجبة الأشهى والأرخص، والتي غالباً ما يرافقها البصل الأخضر وأرغفة الخبز الحار. المهم أننا ولجنا، أنا ومرعي، إلى البيت، ومباشرة اتجهنا إلى الدرج المؤدي إلى السطح، وبينما نحن نرتقي درجات السُّلّم، تلصصت على فتاة جالسة أمام (جوله) - طباخ نفطي صغير - ومنشغلة بتقليب السمك في الطاوه. في تلك اللحظة تمنيتُ لو أنّهم صبّوا لنا الغداء فوراً، فقد شعرتُ بالجوع وقرقرت عصافير بطني، ثم ازدادت القرقرة حين رأيتني وجهاً لوجه أمام أم صديقي التي كانت تخبز في تنور طيني في ركن من سطح البيت. رحّبت المرأة بي ترحيباً حاراً، وبلهجة جنوبيَّة أشعرتني بالحنيَّة الشديدة، ثمَّ اكتشفت أنّها قد هيّأت لضيفها الصغير كل شيء؛ حصيراً من الخوص مفروشاً في ظل الحائط، ودولكة ماء وقدحين، مخدتين نتكئ عليهما. يا للكرم، ويا للدرس الجنوبيّ الذي لا يُنسى، يحتفون بطفلٍ لا يتجاوز الحادية عشرة ويشعرونه بأهميته. حين جلسنا، قسّمت لنا الأم رغيف خبزٍ نتصبّر به حتى مجيء الغداء، وما هي إلّا دقائق حتى نادت بنتٌ على مرعي: - مرعي تعال اخذ الغده. فهرع صديقي جذلاً ليحضر الصينيَّة العامرة بألذ وجبة لا يزال طعمها في نفسي وذاكرتي، ماعون ممتلئ بالأسماك الصغيرة.   نعم أيّها السادة، الكرم هو هذا، وجبة زوري زهيدة التكاليف بالمقاييس المادية لكنّها تساوي وزنها ذهباً بالنسبة لمن يقدرها. هو كذلك، لا يُقاس الكرم بنوع الأكلة ولا ثمنها بل باليد الكريمة التي تصنعها. ذات يوم، أثناء أحد مشاويري اليوميَّة مع أم الطيب، عرضت عليها أن نتعشّى في مطعم ما، أنا أفضل الشاورما أو الكباب غالباً، وهي تسايرني في رغباتي. في ذلك المشوار، سألتها مثلما أسأل ضيوفي دائماً - شنو حبيبتي شتحبين، كص لو كباب، برغر؟، فابتسمت وقالت: - لا هذا ولا ذاك، هسه شفت أبو لبلبي بالتقاطع وتذكرت أكلة صار فترة ما ماكليها. عرفت فوراً ما تعني، إنّها وجبة نشتهيها أحياناً ونعملها، وكنا في الطفولة مدمنين عليها في مدارسنا الفقيرة. إنها لفات اللبلبي، أي صمونة حجريَّة تفتح وتملأ بالحمص المسلوق. قلت لها:- تتدللين، هسه ناخذ سفري ونشتري صمون بألف ونص ونرجع للبيت نتعشّى كلنا. عزومة لا أزهد كلفةً منها، ولكنها من ألذ الوجبات، لأنّها مقدمة بحب لا تقاس فيه الأشياء بثمنها المادي بل بقيمتها العاطفيّة. يعرف العراقي ذلك جيداً ولا سيما الطبقات الفقيرة، فالجود من الماجود، ووجبة زوري تقدمها امرأة جنوبيَّة في قطاع (60) لطفل يزور بيتها لتساوي صينيَّة مندي يتربّع عليها خروف كامل بمقاييس هذه الأيام. أي والله، الجود ما تجود به النفس مما يوجد عندها. بالتالي، العزومات بقيمها المحسوبة بمقاييس القلب لا بمقاييس الجيوب. أم الطيب تحب لفات اللبلبي، لذلك اعتبرت عزومتي لها أثمن عزومة أقدمها، مثلي تماماً حين اعتبرت وجبة الزوري أجمل وأغلى ما تبقى من الطفولة.