طالب كاظم
في نهاية الأمر، أصابنا الإحباط، بعد أن أخفقت محاولاتنا في لفت الانتباه إلى خطاب بات مضجراً، ونحن نصعد من حماستنا وانفعالنا وتوترنا الوجداني، كلما تحدثنا عن تأثير ثقافة الأطفال ودورها في خلق وتشكيل وعي الأطفال وإمداده بالخبرات والتجارب التي مررنا بها، التي من شأنها أن تساعدهم على مواجهة التحديات مستقبلاً، وصقل وعيهم عبر تغذيته بالأفكار التنويريّة، وجعله مرهفاً في تناوله للفنون كالمسرح والموسيقى، حتى نشعر بأن هذا الكلام، على الرغم من التسليم بأهميته، بات مستهلكاً، وإن لم نقل ممجوجاً، لأنّنا نعيد اجتراره مراراً وتكراراً في كل مناسبة أو من دونها ما أن يجمعنا لقاء بأحد أعمدة أصحاب القرار، آملين أن ينتشل هذه القلعة المهجورة من الاهمال والنسيان. فما نعرفه أن المجتمع العراقي شبابي، بل إن الغالبية العظمى منه هم أطفال من دون سن الثامنة عشرة، لذا ندرك أهمية دور ثقافة الأطفال في انتشال هذا المجتمع الشبابي، من الوقوع في فخ التشدد سواء كان عرقياً أو مذهبياً، فضلا عن المخدرات التي باتت تهدد الأسرة العراقيّة، ومخاطر الانحراف السلوكي وغيرها. ندرك أن مهمة الانقاذ والتحصين هذه، تفوق قدرات منظمات المجتمع المدني، وهي في معظمها محدودة التأثير، ونرى أن المؤسسات الحكومية بإمكاناتها المالية وطواقمها المتخصصة، هي التي تستطيع التصدي لمهمة جسيمة تتطلب قدرات استثنائية، كمهمة رعاية الطفولة، ليس بدءاً بتحرير المدارس وفك اشتباك الدوام المزدوج، عبر بناء مدارس أنموذجية تواكب التطور، واقامة المراكز الصحية الخاصة بالأطفال، والمراكز الثقافية والأماكن الترفيهية والرياضية، وإعادة إحياء المكتبة المدرسية وبث الروح في النشاطات اللا صفية، مثل الخطابة والمسرح والرسم، وتشجيع المخيمات الكشفية، ومد الأطفال بالكتب والمجلات الخاصة بهم، وتشجيعهم على القراءة ليدركوا جدوى وقيمة الكتاب وأهميته. أن تعد طفلاً بتفكير سليم ووعي متفتح ومنسجم ستكسب مواطنا جيدا بعد 10 أعوام، بات هذا الرأي أمراً مفروغاً منه، في الوقت الذي يفكر فيه أغلب المتنفذين الذين يتصدرون المشهد السياسي في محاولاتهم المتواضعة انعاش الحلول السريعة لمشكلات طارئة، من الذهاب إلى مهمة لا تظهر نتائجها آنياً، كانقاذ الطفولة.
نكتشف أن مركزاً ثقافياً واحداً لا يزال يزاول عمله في بغداد، وهو الفانوس السحري الذي شيّد في ثمانينات القرن الماضي ببرنامجه الشهير ومقدمته نسرين جورج سينما الأطفال "لاحقاً أعيد تسميته بـ المركز الثقافي في المنصور، بعد ترميمه من قبل منظمة الإسعافات الأولية الفرنسية، التي نالت منحة منظمة اليونسيف عام 2005".
بغداد وحدها تحتاج لأكثر من مركز ثقافي ترفيهي في أحياء سكنية تعاني ازدحاماً واكتظاظاً، وأن المحافظات هي الأخرى تصارع تنين اللامبالاة ولا أقول الإهمال، لكيما ازعج اولئك الذين يتصدرون المشهد الثقافي، حين نعرف بأن هناك مركزاً ثقافياً واحداً لكل محافظة باستثناء اقليم كردستان تشرف عليها دار ثقافة الأطفال عن بعد، وهي مراكز بلا بناية أو مكان تزاول فيه نشاطها، كما أن غالبيتها أما ملحقة بمبنى مجلس المحافظة أو ببيوت الثقافة التي تشرف عليها دائرة العلاقات الثقافية في وزارة الثقافة، بينما دار ثقافة الأطفال التي تأسست عام 1979 بعد أن كانت سكرتارية تحرير مجلتي "مجلتي والمزمار" عام 1969، تطبع في يومنا الحاضر (2000) نسخة شهرياً، وأقل من ستة كتب في سلسلة القصة، وهي لا تكفي لموظفي الدار نفسها، الأمر الذي أصاب هذه الدار العريقة المثابرة بالجمود والتعثر، لا سيما في نشر السيناريوهات المصورة "الكومكس". في عهد سابق كانت دار ثقافة الاطفال تطبع 120 الف نسخة أسبوعياً لكل من "مجلتي والمزمار"، و100 عنوان كتاب سنوياً تصل لأطفال البلدان العربية من الخليج حتى البحر.
الآن في زمن الوفرة والتمويل بالميزانيات غير المسبوقة، نجد أن الأمر يزداد ضبابيّة وارتباكا، إذ ما علمنا أن "المكافأة" التي تدفع لكاتب القصة أو السيناريو والرسام مقابل صفحة واحدة مصورة من خمسة لقطات سواء كانت في مجلة "مجلتي أو المزمار" ليست بأكثر من 25 ألف دينار. بينما مكافأة القصة التي تصدر بكتاب مصور سواء كانت للكاتب أو الرسام لا تزيد عن 250 ألف دينار - وحده الله يعلم- متى ينالونها، فالمبررات عديدة.. حجة عدم إقرار الميزانية تقف في صدارة تلك المبررات، وهو الأمر الذي دفع بالرسامين والكتاب إلى هجر "مجلتي والمزمار" والابتعاد عنهما، فالمكافأة الزهيدة التي تمنح للكاتب والرسام قد تنال اهتماماً أو بصيص أمل في لفت انتباه ذوي الشأن في نسخ اجحاف نال من الكتاب والرسامين، وكانت سبباً في انحسار مد رسامي الكومكس الروّاد وابتعادهم عنها. من الواجب على الدولة أن تحتضن الكتاب ورسامي "الكومكس، انيميشن" وتدفع باتجاه ترسيخ دار ثقافة الأطفال سواء بفسح المجال أمام توظيف رسامين يتميزون بقدرات احترافية، إذ غالباً ما ينال فرص التوظيف اشخاص غير معنيين بثقافة الأطفال ولا يسهمون في تطوير أدائها كدار نشر
متخصصة.
لستُ بصدد ذكر الأسباب ومنح أجور من شأنها أن تشجع على ديمومة المناخ الابداعي المناسب، واستقطاب الكتاب وزملائهم الرسامين لمزاولة نشاطهم الاستثنائي. فالدولة كمؤسسة حاكمة عليها أن تستثمر في الطفولة، فهو الوحيد الذي لا يخسر، لأنه يحقق ربحاً، إنسانياً، في بناء طفولة
واعدة.