الكتابة: ذلك الدربُ الوعرُ حقّاً
باقر صاحب
تضيء رسائل واحدٍ من أهمّ الكتاب الأميركيين في القرن الماضي، إرسكِن كالدوِل” 1903 - 1987”، تفاصيل تجربته في الكتابة والنشر للفترة “ 1929 - 1955”، مراسلاته مع عائلته وأصدقائه ومحرّري أعماله، فضلاً عن الناشرين والنقاد، تُعدُّ بمنزلة “درسٍ عمليٍّ لا يخصُّ شخص إرسكِن كالدوِل فحسب، بل سائر من هم في الدرب ذاته: “درب الكتابة الوعر” ، كما دوّن المترجم عماد العتيلي، في تصديره للكتاب الصادر عن دار المدى 2024 ، تحرير الكاتب والمحرر والسياسي الأميركي: روبرت مَكدولَند.
مسيرة كالدوِل الأدبية خلال ستّة عقود، كانت ثمارها ستين كتاباً قصصيّاً وغير قصصي. كانت أول خمسة وعشرين عاماً من تجربته الكتابية، هي الحقبة المهمة التي تغطّيها الرسائل، وتمثّل ذروة نجاحه وشهرته. وقد نال كالدوِل أكثر الكتّاب مبيعاً في الأدب الأميركي، عديد الجوائز، من بينها وسام الاستحقاق البولندي 1981 ووسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة قائد 1983 ونيشان الاستحقاق البلغاري 1984.
وإذا كان هذا الكتاب سيرةً رسائلية، فإنّه قدّم كتابين تأليفيين عن تجربته في الكتابة، أحدهما “كيف أصبحت روائياً”، مزج فيه بين اليوميات والسيرة والمذكرات، ليقدم تفاصيل سفره في عالم الكتابة، في أربعينيات القرن الماضي، فكان أشبه بورشةٍ مدرسيةٍ عن كيفيّات ومهارات الكتابة، يقدّم فيها عصارة سفره الروائي الطويل.
الوصول إلى القمّة
عانى كالدوِل كثيراً قبل أن يصبح كاتباً مشهوراً، ويذكر محرّر الرسائل روبرت مَكدونَلد في مقدّمته للكتاب، أنّ قصصه كانت تُرفض بحجّة أنّها تنشر الفظائع، وأنّ كتّاباً كباراً مثل وليم فوكنر، في حينها حُذّروا من قبل نقّاد، من أن يحذوا حذو كالدوِل، في تمرير الفاحشة إلى الذائقة العامة. كان ردّ كالدوِل بأنّه لا يبغي من قصصه سوى تبيين” تفاعلات الناس رجالاً ونساءً مع أفراح الحياة وأتراحها”، وعلى ذلك كان يهاجم النقاد بوصفهم مجرّد “هواة” و”متبجّحين”، وأنّ أعماله ليست مُوجَّهةً إليهم، بل للناس العاديين في الشوارع. هذه المناوشات الحامية بينه وبين النقاد، وصلت إلى حدّ أن إنكاره لجهودهم دفع النقّاد “لطرده من قصر الأدب الرفيع، وإلقائه في غابة الأدب الوضيع”...
استحوذتْ على كالدول منذ بواكير تجرته الأدبية، فكرة التفرّغ للكتابة، ما يتطلب توفير سبل العيش من كتابة القصص والروايات، ولم يكنْ ذلك الأمر بالسهولة حينذاك، بالنظر لمجافاة الناشرين لطبيعة كتابات كالدوِل الفضائحية كما يرون، ولكنّه كان عازماً على ذلك الأمر مهما تطلّب من زمنٍ يمتدّ لسنوات. وريثما يحين ذلك الوقت افتتح وزوجته الأولى هلن متجر كتب في بورتلاند، كي يعتاشا منه، لكنّ المتجر أفلس بسبب سوء الإدارة، ومجافاة الناس لكالدوِل، بسبب ما يُشاع عن رواياته الإباحية.
رسائل كالدول، تُطلع القراء على أجواء كتابته لأولى رواياته، فقد لجأ مَكدونَلد إلى ضمّ رسائل الأعوام الذهبية أو ربيع كتاباته، بدءاً من عام 1929 وهو العام الذي نشر فيه أولى رواياته، وعمره 26 عاماً، وانتهاءً بعام 1955، الذي يسمّيه مَكدونَلد” عام ركود كالدوِل الأدبي” .
حين ندخل في متون الرسائل، نجدها غايةً في البساطة، ليست من اللغة الأدبية في شيء، كما أنّ حجمها لا يتجاوز ثلاث صفحاتٍ في كتابٍ من الحجم الكبير. هناك الحميمية والخصوصية في رسائله إلى والديه، فهما يقطنان في الشمال الأميركي، ولاية جورجيا تحديداً، أمّا هو فقد سكن، بادئ الأمر، في الجنوب، مع زوجته الأولى هلن، نقول ذلك، لأنه انفصل عنها، وتزوّج من مصوّرةٍ فوتوغرافية، هي مارغريت بورك- وايت، وعملت معه في إنتاج كتبٍ وثائقيةٍ مُصوَّرة، مثل “ها أبصرتم وجوههم”، عن ولايات الجنوب الأميركي، وآخر عن العمال التشيكوسلوفاكيين، إذ سافرا إلى التشيك، وأنتجا كتاباً عنوانه “شمال الدانوب”، وثالث عن تجوالهما في سائر أنحاء أميركا، حيث أنتجا كتابهما المشترك الثالث “قلْ لي، هل هذه الولايات المتحدة الأميركية؟”، ثمّ أصدرت لهما دار (دويل، سلون وبيرس) ثلاثة كتب عن روسيا، إذ سافرا إلى هناك وقت اشتداد الحرب العالمية الثانية، وتلك الكتب مشاهداتٌ حيّةٌ لروسيا في فترة الحرب.
بورك – وايت التي أحبّها كالدوِل حبّاً جنونيّاً، انفصل عنها أيضاً، بعد إهمالها له، إلى الدرجة التي كاد يُجنُّ فيها من هذا الإهمال. وتزوّج ثالثة، هي طالبةٌ جامعية، تُدعى جون جونسن، التقاها عندما ألقى محاضرةً في جامعة أريزونا.
هواجس النشر والمتابعة اليومية لما يرسل من نصوصٍ ومجموعات قصصٍ ورواياتِ إلى المجلات ودور النشر، لها الغلبة في محتويات رسائل كالدوِل قاطبة. وكان يعدُّ النشر في مجلةٍ رصينةٍ مهمّاً جداً بالنسبة إليه، في رفع سقف آماله في الانتشار. وكلّ ما يتعلّق بمستوى قصصه يتّضح في الرسائل، فهو يعترف بأنّه خلال ستة أعوام لم يكتبْ قصصاً مهمةً سوى ثماني قصص أو عشر.
في مُجمل رسائله، يفصح كالدول عن كلِّ ما في جعبته، لا يخبّئ مخاوفه ولا ابتهاجاته، يطرح كلَّ شيءٍ عن تقدّمه ونجاحاته في عالم النشر، وعن عزمه على قطف الجوائز الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى قطف “البوليتزر”، ولديه إرادةٌ قويةٌ في ذلك.
أخذ كالدوِل يشقُّ طريقه نحو القمة، بتسابق دور النشر في نشر مؤلفاته في القصة القصيرة والرواية، وأصبحت روايتاه الأوليان “طريق التبغ” و”أرض الله الصغيرة” تلقيان رواجاً، وعلى إثر ذلك عيّن وكيلاً أدبيّاً له “ماكس لايبر”، ليتابع كلّ التفاصيل مع دور النشر. وبحثاً عن دور نشرٍ تجيد التعامل وتقدّر موهبته، ينفصل عن دار (سكربينز)، ويتعاقد مع دار (فايكنغ)، الأمر الذي ينعش أحواله المادية، ولا يبقى على وفاقٍ مع الأخيرة، وسرعان ما ينقلب إلى أخرى (دويل، سلون وبيرس)، فكانت أكثر تفهماً لعالمه القصصي والروائي، وكذلك تدفع له أكثر. وهناك حسُّ السّخرية يشعُّ في تفوّهاته إزاء النقاد والناشرين. ومع كلّ ذلك، كان كالدوِل يمارس المرونة مع الناشرين والمحرّرين، مع الاعتداد بقصصه واستعداده للتعديل والإضافة إذا تطلّب الأمر، في سبيل مجده الأدبي، بالتوازي مع إيجاد السبل الكفيلة بحياةٍ كريمةٍ له ولعائلته.
وما زاد من رصيد نجاحاته، إسقاط دعوى أقامها محامي مجتمع نيويورك على رواية “أرض الله الصغيرة”، بوصفها تنشر الفحش والرذيلة، إذ تتضمن الدعوى المُقامة مُقاضاته هو ودار (فايكنغ)، فازداد الإقبال على شراء الطبعات الأولى من رواياته بسبب قرار القاضي بتبرئة الرواية من تهمة الفحش والإباحية.
وأصبح كالدوِل فاحش الثراء من وراء تحويل “طريق التبغ” إلى مسرحية، أصبحتِ العرض الرئيس في مسرح برودواي، ثمَّ تجدَّد عرضها في مسارح نيويورك لسبع سنوات ونصف السنة.
كالدوِل في هوليوود
عمل كالدول ككاتبٍ في هوليوود، مثله مثل كتّاب آخرين، وليم فوكنر، كان واحداً منهم، لكي يعتاشوا على مستحقّات أجور الكتابة في هوليوود. هو عملٌ اضطراري، فهو لا يحبُّ عالم السينما، وإنّما عليه التحمّل، حتى تنتهي أزماته المالية. عدم ارتياحه نابعٌ من أنّ الكاتب ليس هو الأساسي في نظام صناعة الأفلام، بل عليه أن يرضي خمسة أو ستة أشخاص، وبهذا لا يستطيع الكتابة بحريّةٍ للسينما، على العكس من الرواية المقروءة، فالروائي هو المتحكّم الأساسي فيها. عمله هنا إعادة كتابة، رافضاً كتابة سيناريو أصلي، لأن الأفلام، كما يرى، تطمس النصّ الأصلي، لكنّه يرى في الوقت ذاته، أنّ الكتابة السينمائية لها إغراءاتها، فالأسبوع السينمائي يعادل أجره عشرين ضعفاً من الأسبوع الإبداعي، إذ يعمل في السينما أربعين ساعةً في الأسبوع، فأخرجته أجور الكتابة السينمائية من دائرة الديون والفواتير. ظلّ كالدوِل يشمئزّ من عالم هوليوود، مستمراً في رسائله بالكشف عن أسرارها، فهم يغرون الكاتب المغمور بالمال، حتى يصبح خانعاً لهم، ومُصاباً بما أسماه نزعة “ التهولد” أي يصبح واحداً منهم.
كان يمقت هوليوود لأنها لا تصنع أفلاماً عن الكادحين، بل عن أهل الثراء، الذين يتقاضون كلّ أسبوعٍ 500 دولار في الأقل آنذاك في أربعينيات القرن الماضي، فلم تعجبِ المنتجين روايته الأولى “طريق التبغ”، إذ يصفونها بأنّها مُفرطةٌ في القسوة، ولهذا يرى أن هوليوود تتنكّر للواقع.
طقوسه في الكتابة
طقوسه في الكتابة، قد يعتبرها المقابل غريبةً بعض الشيء، فمنها استخدامه الدائم للآلة الكاتبة، لأنّه لا يستطيع قراءة خطِّه هو. ومن طقوسه الكتابة اليومية من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، مع الاستراحة من الكتابة جملةً في الآحاد. وهناك استراحةٌ أخرى، وهذه موسمية، تمتدّ إلى شهرين أو ثلاثة أشهر، وتكون غالباً في الصيف. كما أنّه من الصعب بالنسبة له الاكتفاء بكتابةٍ واحدةٍ للقصة أو الرواية، بل يلجأ إلى إعادة كتابتها عشر مرّات أو حتى خمس عشرة مرّة، وحين يصل إلى هذا العدد من الإعادات، يشعر بأنّه لم يحسّنِ النص، بل خرّبه، فيقوم بإتلاف ما كَتب. يحدث هذا في أيلول أو تشرين الأول من كلّ عام. ومن طبائعه أنّه لا يراجع نصوصه بعد يدفعها إلى المطبعة، لأنّه حينذاك ينهمك بكتابة نصوصٍ جديدة.
مرتفعات الدرب ومنخفضاته
كتاب “درب الكتابة الوعر” سيرة كفاحٍ، وفشلٍ يعقبهُ نجاح، وربما يعقبُ ذلك فشلٌ أيضاً. وعورة الدرب تكمن في السعي المرير للوصول إلى القمّة، التي يتخيّل المبدعون في جميع الأجناس الأدبية، أنهم سيصلون إليها، وينالون الشهرة والخلود الأدبي، ولكنّ من يصلون إليها قلائل، ربما أولئك الذين لديهم الحظّ والموهبة والعمل، كما يقول الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعاً غيوم ميسو. كالدوِل الذي كان مرشّحاً لجائزة نوبل، ولم يَفزْ بها، يقول في كتابه السيري” اسمها تجربة”: “ما زلت حتى الآن استغرب ما الذي حدث قبل ثلاثين عاماً وقادني بشكلٍ حاسم، ودفعني إلى طريق الكتابة، الذي لم أستطعْ أداءهُ بخفّةٍ ودونما جهد، فقد كانت أمي تجادلني لكي أعدُّ نفسي لدراسة القانون، وكنتُ آنذاك لا أمتلك الحافز ولا الرغبة في أن أكون كاتباً “. كالدول الذي كان يقول ذلك، بات الملهم لعديد الكتّاب المشاهير، ومنهم إرنست همنغواي، الذي قال لكاتب سيرته (هوتشنر):” حفّزني كالدوِل على أن أصبح كاتباً”.