مفتاح مفاتيح الحكم الصالح

آراء 2024/07/31
...














 أ.د عامر حسن فياض

لكل دستور مزايا وعيوب، ولكل نظام حكم عورات وعثرات، وفي كل عملية سياسية فيروسات ضارة ومضادات حيوية، ومن هنا تأتي الاضافات والحذوفات والتعديلات على الدساتير والثورات والانقلابات والانتفاضات على نظم الحكم.. وكل ذلك يحصل في سياق دورة تاريخية طويلة، تم التنظير لها تحت عنوان (نظرية الدورة التاريخية المتعاقبة لأنظمة الحكم ودساتيرها) عند المفكر اليوناني الاصل الروماني الهوى بوليب أو بوليبوس حسب اللفظ الاغريقي (254 – 122 ق.م)،

 الذي كتب أربعين جزءًا في كتابه (التاريخ) أرَخ فيه لروما ونشأتها وتطورها ونظمها السياسية والادارية، إلا أن ما بقيَ من كتابه لا يزيد على خمسة أجزاء وقطع متناثرة من الأجزاء 

الباقية.

لقد انطلقت نظرية الدورة التاريخية المتعاقبة للدساتير والنظم عند بوليب من دراسته لأنظمة دولة المدينة ودساتيرها وتحولاتها، ومحاولته تجنيب روما الآثار السلبية ونتائج المرور بها والتي يجد الحل المناسب لمشكلاتها في أخذ روما بنظام الحكم المختلط المستند إلى فكرة الدستور المختلط، حيث استخلص من قراءته لوقائع التاريخ السياسي الروماني أن مرجع قوة روما ومصدر عظمتها يكمن أولا في دستورها المختلط القائم على الجمع بين انظمة متعددة ومختلفة تندمج مع بعضها في إطار واحد بدقة وتوازن كاملين بما يضمن توزيع السلطة بين القوى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والرقابة المتبادلة 

بينها. 

وقد عاش الرومان على اساس هذا الدستور في ظل نظام سياسي تمتزج فيه وتتوازن وتتعاون سلطات (القنصل / المستشار كتجسيد للنظام الملكي الفردي( و (مجلس الشيوخ كتجسيد للنظام الارستقراطي النخبوي) و(المجالس الشعبية كتجسيد للنظام الديمقراطي الشعبي)، وباجتماع قوى هذه الانظمة وتعاونها ورقابتها على بعضها امتلكت روما مقومات القوة والعظمة، التي اتاحت لها فرض سلطاتها على الآخرين وإخضاعهم لإرادتها. 

ولاحظ بوليب من مقارنته بين دستور روما ونظام حكمها ودساتير قرطاجة والدول اليونانية وأنظمة الحكم فيها، تميز الدستور الروماني ونظامه السياسي وتفرده، الذي منح روما المصدر الثاني لقوتها والمتمثل في طبيعة المواطن الروماني الواعي سياسياً، العارف بحقوقه وواجباته، الحريص على دستوره ونظام 

دولته. 

ووفقاً لقانون الطبيعة والدورة التاريخية للنظم السياسية والدساتير، رأى بوليب أن روما وبعد صعودها إلى القمة يمكن ان تصاب بضربات تعيدها إلى ما كانت عليه من قبل ولن يحميها من ذلك إلا محافظتها على دستورها ونظامها المختلطين، لأن قوتها بالأصل تكمن في نظاميها الدستوري والسياسي لا في رضا الآلهة 

عنها. 

وعلى هذا الأساس عَدّ بوليب «النظام المختلط هو النظام الامثل في الحكم وأن افضل الدساتير هو الدستور المختلط، الذي يعبر عن جوهر هذا النظام»، ورأى ان بمقدور روما الاعتماد على فكرة الدستور المختلط للحد من النزوع الطبيعي لأنظمة الحكم والدساتير كلها نحو الفساد، لأن هذا الدستور يضمن لنظام الحكم ومؤسساته وسلطاته المتعددة قوة متعادلة ومتوازنة، فلا يتاح لإحداها أن تتغلب على القوى الاخرى ومؤسساتها وتنفرد بفرض نظامها على الدولة لتصبح ملكية أو ارسقراطية أو ديمقراطية، كما سيكون لكل مؤسسة وسلطة منها القدرة على مراقبة المؤسسات والسلطات الاخرى وكبح جماحها ومنعها من الانفراد بالقوة وتحقيق الغلبة والتفوق. فإذا ماتفوقت إحدى القوى السياسية وسلطاتها ومؤسستها فإن الدستور المختلط سيمنعها من جعل استبدادها بأمور الحكم، استبداداً كاملاً ومطلقاً ودائماً، لان طبيعة الدستور المختلط تسمح للقوى والسلطات الأخرى في الدولة بمواجهتها والتصدى لها، ليعمل النظام الدستوري والسياسي المختلط على استمرار حركة التقدم، ولكن ليس إلى الحد الذي يغير من طبيعة الدولة ونظام الحكم فيها ولا بالشكل، الذي يجعل إحدى قوى النظام ومؤسساته وانفرادها بالسلطة أمراً 

ممكناً.

ويمكن تسجيل أربع ملاحظات اساسية عند بوليب عن نظام الحكم المختلط: 

1 - إن حتمية حدوث الدورة التأريخية المتعاقبة للدساتير وأنظمة الحكم وما تنتهي اليه من فساد الدساتير والانظمة وانهيارها، قانون ثابت ومؤكد وعام بالنسبة لكل أنواع الدساتير والأنظمة ذات الطبيعة

 الاحادية.

2 - إن حتمية حدوث الدورة التاريخية المتعاقبة للدساتير وانظمة الحكم وما تنتهي اليه من فساد الدساتير والانظمة وانهيارها لا تنطبق على الدستور ولا نظام الحكم المختلطين بحكم امتلاكها عناصر مضادة لها، تمنع تأثيرها في هذا الدستور ونظام 

حكمه.

3 - إن قوة الدستور ونظام الحكم المختلطين تستند إلى توازن القوى الاجتماعية وليس إلى توازن القوى السياسية كما ذهب أرسطو من قبل.

4 - إن التقسيم السداسي للدساتير وأنظمة الحكم ظاهرة خاصة بدولة المدينة اليونانية ومستمد من تجربتها السياسية 

التاريخية.

ولكن أهمية نظريات بوليب وافكاره السياسية لا تعود فقط إلى تحليله التاريخي المقارن للدساتير والنظم السياسية، ولا لمجرد وصفه لمبادئ الدستور المختلط وقواعد نظامه السياسي المختلط فقط، بل وترجع ايضا إلى تاثيره في الفكر السياسي من بعده بشكل 

عام. 

حيث يمكن تلمس تأثيرات نظريته عن النظام والدستور المختلطين في الفكر السياسي في العصور اللاحقة الرومانية الوثنية والمسيحية الوسيطة وبشكل خاص أفكار شيشرون. 

ويرى «جورج سباين» أن تأثير أفكار بوليب امتد حتى وصل إلى الفكر السياسي الحديث عندما تأثر بها مونتسكيو الذي تأثر بأفكاره واضعو الدستور الامريكي من الآباء المؤسسين الأمريكيين، واقتبست النظم السياسية الغربية الحديثة تقاليد النظم السياسية الرومانية القديمة عن أفكار بوليب، التي كان أهمها:

- فكرته عن الدستور ونظام الحكم المختلطين، التي تأثر بها مونتسكيو ووجدت طريقها إلى التطبيق على يد الآباء المؤسسين الأمريكيين الذين أخذوها عن مونتسكيو وطبقوها لأول مرة في النظام المختلط الدستوري والسياسي الحديث الذي أقاموه في الولايات المتحدة الأمريكية.