العالَميَّة بوصفها واقعة كُلِّيَّة

ثقافة 2024/08/07
...

محمَّد حسين الرفاعي

أي نحنُ، من النَّحْنُوات (جمع نحن) الممكنة، التي من شأننا، ويمكن تسويغها، نريد؟ وكيف نتكاون (نسبةً إلى الكينونة) مع العالَم، وفيه؟ وعلى أيَّة أرضيَّة فهم يمكن أن نسوِّغَ ذاتَنا في كلِّ مرة، ضمن العلاقة بالعالَم؟.
[I]
إنَّنا نفهم العالَميَّة ونفسرها على نحو - I التعدُّد في العالَميَّة، و- II التموضع في العالَم، - III والتَّفَهُّم في العالَم، أي تَذَوُّتنا في العالَم. إنَّ فهم العالَميَّة وتفسيرها يسيران معًا على طريق واحدة. إنَّها طريق فهم العالَم في كلِّ الأحايين بالانطلاق من العنصر البنيوي- التكويني الأصليّ الذي من شأنه، أي العالَميَّة. نحن نفهم العالَم من فهمنا للعالميَّة، لا العكس. وهكذا نتساءَلُ مباشرةً: وفقَ أيِّ منظورٍ يمكننا فهم العالَميَّة، بعد أن كنَّا قد فهمناها، طويلاً، بدءًا من عصر النهضة العربيّ إلى الآن، من جهة التُّراث العربيّ والإسلامي، أو من جهة ما تريد هي، أي بتوسُّط الحداثة الفكريَّة والعلمية؟ وما هي مصادر التذُّوت التي يمكن أن تؤثر في الذَّات العربيَّة- والإسلامية الأصيلة، ومن بَعدُ تحدِّدُها، ومِنْ ثَمَّ تثبتها؟.  

[II]
في الحقيقة، علينا، أوَّل الأمر وفي أغلب الأحاديين، أن نسعى لجعل العالَميَّة منظورة من جهة الفكرة الأصليَّة فيها، التي قامت مع انبثاق المعرفة الفلسفيَّة والعلمية، في عصر الحداثة، أي فكرة التعددية. ومن جهة أن للتعدُّديَّة صيرورة فهم تبدأ مع الاختلاف في عمليات بناء الموضوع الفكري، والاختلاف في بناء المنهج الذي من شأن فهم الموضوع، ولا تنتهي بالاختلاف الآيديولوجي بين الاتجاهات والمدارس الفلسفيَّة والفكرية، فإنَّ للتعدُّديَّة بِنيَةً- وتكوينًا علينا التوقف عندهما. لماذا؟ لأنَّ التعددية كانت بمثابة تحدٍّ أصليّ يواجه كل محاولة من محاولات توحيد العالَم ضمن إطار، أو حدود، أو مفاهيم بعينها. إنَّ إمكان التعدُّد في العالَميَّة يتعيَّن انطلاقًا من فكرة التَّعدديَّة. إنَّنا متى أردنا فهم التعددية، علينا أن نقف عند ماهيَّة التعددية، وصيرورتها، وبِنيتها. إنَّ ما يجب أن نفهمه في الحقيقة، هو حقيقة العالَميَّة. إنَّها تتواشج على نحو بنيوي مع صورة العالَميَّة، وهوية العالَميَّة، بالانطلاق من ثُنائيَّة [فهم العالَميَّة- وتفسير العالَميَّة]. أن نقول فهم العالَميَّة هو أن نبحث عمَّا يسبق، في كل مرَّةٍ، التَّساؤل عن العالَميَّة. وأن نقول تفسير العالَميَّة هو أن نفهم، ضمن تفكيك العالَميَّة، العناصر والعلاقات بينها، التي تمت ممارستها، على نحو بَعْدِيّ.

[III]
أن نفسِّر العالَميَّة هو أن نتفحَّصَ الطرق والمنظورات النظريَّة، فلسفيَّاً وفكريَّاً، التي تُحدِّد فهم العالَميَّة. إذن نحن نفهم العالَميَّة في كل مرَّةٍ على نحو تفسير العالَميَّة. وفي هذه الحال، يمكننا أن نفتح إمكانًا لفهم التعدُّد في العالَميَّة. إنَّ فهم إمكان التعدُّد، يسبق فهم التعدُّد في العالَم. كيف يمكن، إذن، أن ننطلق ببناء هُويَّة العالَميَّة، وفقًا لما تقول صورة العالَميَّة، وقد صارت واقعةً أنطولوجيَّة- وفكريَّة؟ لا نشير هنا إلى آيديولوجيَّةِ العالَميَّة، بوصفها لا تبشِّر بذاتها، ولا إبستيمولوجيَّة العالَميَّة، من حيثُ إنَّها تؤسس لأرضية موضوعيَّةِ الموضوع الفلسفي- العلميّ ما بعد الحديث- لأننا سنتوقف بَعْدِيَّاً عند مستوى آيديولوجيا العالَميَّة، وإبستيمولوجياها. ما يجب أن نفهمه قبليَّاً، ضمن الـ [ههنا- و- الآن] هو هذا: إنَّ العالَميَّة إنَّما هي واقعة تقع علينا على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها تبدو، في الوهلة الأولى، كبداهة. ولكنها ليست كذلك، إنَّها واقعة تعيد تحديد الواقعيَّات التي من شأن الواقع المجتمعيّ، في كل الأحايين. إنَّ واقعيَّةَ العالَميَّة ترسم كل ضرب من ضروب الوقوع، والحُدثان في العالَم: عالم الواقع، وواقع العالَم؛ وبالتالي في الواقع الواقعيّ، وضمن إطار مَوْقَعَة (نسبة إلى الواقع) واقع العالَم The Realization of reality of the world  من جديد.

[IV]
إذن واقعة العالَميَّة في تواشج مع مثول العالَميَّة في الكائن العالَمي اليوم. في الـ[ههنا- و- الآن] نتساءَل عن [العالَميَّة- داخل- الكائن]؛ وكيف تعيد تحديد وجوده الأنطولوجي والمجتمعي، على نحو الوجود الهَوَوِيِّ في العالَم. ولكن من جهة أن الهُويَّة تمايُزٌ واختلاف من منظار الخارج، فإنها تفهم ذاتها من الخارج، على نحو بعدي باعتبارها حقل التباين والاختلاف. أن نوجد عَبرَ الهُويَّة هو أن نوجد على نحو المحدِّدات القَبليَّة Priori التي للإنسان. إنَّ ما هو مبحوث عنه هنا إنَّما هو الهُويَّة العالَميَّة عَبرَ هُويَّة العالَميَّة وقد صارت واقعة قائمة بحدِّ ذاتها. إنَّ هُويَّة العالَميَّة إنَّما هي السابق إلى الهُويَّة العالَميَّة على نحو التحديد. أعني على نحو الضرورة التي من شأن التحديد في كل الأحايين. فإنَّ ذلك يعني أن تتضمَّنَ هُويَّةُ العالَميَّة مُكَوِّنات وروابط وجودية أصيلة، يمكن فهمها بأنَّها تصف إمكان وجود الإنسان في العالَم. ومن حيثُ إنَّها تتوفَّر على جملة الإمكانات في تحديد الإنسان في العالَم، فإنها السابق إلى إمكانيَّةِ الإمكان أساسًا: إمكان وجود الإنسان في العالَم.

[V]
ولأنَّ فهم العالَم هو ما يجب أن نتوفَّر عليه، قَبلَ الظهور في العلاقة مع الآخر، أي الفعل نحو الخارج، سواء كان شخصًا أو جهة أو جماعة أو مجتمعًا أو دولة أو المجتمع العالَمي، فإنَّنا، من خلال فهمٍ بعينه على الدوام، نسلك إزاءَه، بادئ الأمر وعلى الأغلب، سلوكًا آيديولوجيَّاً أو سياسيَّاً. أعني أن فهم العالَم إنَّما هو محمول في فهم موقفنا من العالَم؛ وأنه أيضًا مأخوذٌ إلى الفهم على نحو الفهم السائد الذي تحدده السلطة على الدوام. إنَّ الفهم السائد، يجعل من العالَمية مُحتجَبةً بفعل اعتبار العالَم، على قاعدة الافتراض قبليَّاً، ويعتبره معطىً كاملاً. ولكن الأصل هو اكتمال العالَم عَبرَ التكامل مع العالَميَّة، أي عَبرَ التفاعل والتصيُّر.

[VI]
فنحن لا نتعرف إلى العالَم إلاَّ ضمن مقولات جاهزة من قبيل: إنَّ العالَم إنَّما هو جملة الثقافات المجتمعيَّة؛ أو إنَّ العالَم تسوده الحُرِّيَّة؛ أو إنَّ العالَم مكانٌ لأنْ نوجد فيه؛ أو إنَّ العالَم يقع على الضدِّ منَّا؛ أو إنَّ العالَم يجعل وجودنا ممكنًا متى فهمنا السوق العالَميَّة وضرورة الدخول في الدورة الإنتاجية التي من شأن الاقتصاد العالمي؛ أو إنَّ العالَم يفهم الدول على نحو المصلحة... وهكذا دواليك. إنَّ المقولات هذه إنَّما هي، على الرَّغْمِ مِنْ أنَّها أساسيَّة في أي ضرب من ضروب بناء العلاقة مع العالَم، إلاَّ أنها تختزل فهم العالَم في الآيديولوجيا، وعلى الأغلب بالسلطة، أي بتوسُّطها. ولذلك، فإنَّنا نواجه عقبة معرفية كبيرة ومعقدة في التَّساؤل عن هُويَّة العالَميَّة، متى توقفنا في التَّساؤل عن العالَم، عند مستوى الآيديولوجيا التي تحددها السلطة، أي سلطة. ومن خلال تلك الآيديولوجيا، لا تُحدِّد هُويَّة مجتمعيَّة نهائية، وحقائق جاهزة فحسبُ، بل هي تُعيِّنُ هُويَّة العالَميَّة، وحقائقها الكاملة أيضًا.
لماذا؟ وكيف تحجب المواقفُ القَبليَّةُ العالَميَّةَ، وهويَّتَها؟ لأنَّ مُكَوِّنات هُويَّة العالَميَّة والروابط التي بينها إنَّما هي من جنس أنطولوجي- وجوديّ، من جهة، وهي إبستيمولوجيَّة- ميتافيزيقية من جهةٍ أخرى. بمعنى هي من جنس القبليات التي تُحدِّد أصل الأشياء في العالَم، وطبيعة وجودها في الخارج من جهة، وهي من جنس الأسس الموضوعيَّة والمَنْهَجيَّة التي تجعل الأشياء في العالَم مفهومةً، وتؤسِّسُ لـ[القَبْليِّ Priori] الذي بدوره يؤسِّسُ لفهم أي ضرب من ضروب [الوجود- في- العالَم]. وفي هذا السَّبيل، يمكن فهم علاقة الفاعل المعرفيّ، والذَّات المجتمعية مأخوذَةً على نحو الفعل، من جهة كونهما يفعلان ويفكران ويؤسسان من داخل العالَميَّة، بوعي أو من دون وعيهما.