المُنْتَحِرُون يتحوّلون لأشجارٍ جهنميَّة
يقظان التقي
الأشجار هي الحياة.. لا تعرف أسماءها، أسماؤها قبلها، صامتة بغبارها، صامدة على زاوية الشارع، شاهدة على تغيرات وجوه المدينة، والتحولات في فصولها، تبتسم للجالسين على المقاهي وللعابرين، وتصرخ بوجوههم أحيانا، ثرثارة بطيورها وبتفاصيلها، أسرارها منها بلا شفاعة، ظلالها من أرقها الطويل، وعزلاتها أحيانا كثيرة بلا رقيب.
جاء يوم كُرِهَ في العالم الشجر، قطعوها من عتمة جذورها، فضلوا عليها مدناً من الاسمنت، وصارت الحياة في بستان آخر، غير أن ينظروا الى الشجر وبها الى متن الحيوات، أن يمشوا بهوائها، النظرات ولا تتعب بين المنعرجات المكسوة بالأشجار على الجانبين.
تغيّرت حياة الناس، قصّوا أشجار الطيبة، طفولات لم تبقَ طويلاً في الهواء، الشجر الذي ذهب غادر المدينة، والذي لم يغادرها مارس حقه في اقتحام منتصف الطرقات ببربريَّة شاعريَّة، يقطع الطرق، ينمو شيئاً فشيئاً، تزدهر الأوراق وتخضّر وتصرخ بنداءات مجنونة وروايات كثيرة.
هي "نعومة الظل" عنوان موسوعة المؤرخ آلان كوربان عن ماهية الشجرة والطبيعة الحقيقيّة لها عن منشورات دار فايار.
حساسية مادية مهمة عن الشجرة، تلك العابرة بين الأرض والسماء والقريبة من روح الإنسان والبعض يقول القريبة من الآلهة. أو القوى المظلمة وفق الآخرين.
بين شجيرات أقرب الى أمثولة الآلهة والولادة، وأخرى أقرب الى القوى المظلمة والشيطانية. مقاربة مادية حسيّة لموضوع الشجرة، يستعرضها آلان كوربان في حوار كانت أجرته معه مجلة "لوبوان" الفرنسية في موضوع طريف وعميق جداً، ويحمل أكثر من بعد واحد تاريخي أسطوري وإنساني وجمالي، وهنا نص الحوار:
اخترت أن تعنون كتابك "نعومة الظل"، بالنسبة اليك، الشجرة أمر جيد، مثل الطبيعة عند روسو حيث كانت محبّبة جداً؟
- آلان كوربان: الشجرة تشبه "جانوي" العابر بين الأرض والسماء، هي القبة السماوية، وعالم الجحيم، أو مقر نفوس الأموات وتدخل معه في علاقة غرائبية. على مدى قرون لم يهتم عالم النبات المسيحي بالشجرة إلا من خلال أغصانها، مع رفض النظر الى الجذور، أي اهتم بكل ما يصعد الى السماء.
كانت أهمية الشجرة كون قربها من السماء أو من الإله وبمقدار مما تبتعد فيه الشجرة عن الأرض وما تحت الأرض. ووفق المتخيل الغربي والأسطوري، الجذور لديها قوة الطبيعة الشديدة وبعض الأمور تكتمل في البطء والسكون واللا مرئي، وهذه الحياة العميقة مستوحاة من طبيعة الأرض نفسها. ثم الشجرة هي واحدة من الشخصيات الأشد قوة في عالم فكتور هوغو، الذي رأى في جذور الشجرة الكبيرة الشيء المختلف عن الدين وعن عالم الرجال. هوغو، وصفها بوصفها "التجسيد للقوى المظلمة". بدوره ديفيد ثورو رأى الى أسرار الجذور التي تعبّر عن رغبة متوحشة وغرق أكثر بشكل سلبي للوجود، بينما الروائي البريطاني ديفيد هربرت لورانس، أشار الى "الرغبات الهائلة للجذور" على نحو يشبه "الشبق" أو "الدعارة". لديَّ خوف كتب لورانس من ذلك الشارع الأعمى للانتماء العميق الوحشي عند الجذور.
الشجرة هي في الوقت نفسه تعبير عن تراجع الإعلاء أو "رفع الذراعين فوق الرأس"؟
- في نهاية القرن التاسع عشر كانت الشجرة تعني الارتداد أو الانكفاء الى باطن الأرض، ولكي تتطور باتجاه الإنسانية يجب أن تنزل من الشجرة. في الوقت نفسه تجد في الأدب نماذج مختلفة، كما عند البارون برشيه، المثقف الأرستقراطي اختبأ في الشجرة ليأخذ من العلوّ وللحصول على روح جديدة. لأنَّ الشجرة تساعد على إعادة الخلق. الشجرة في هذا عقد يربطها بالعالم الآخر.
هذا يتعلق بعبادة الأموات؟
- الأشجار تبعد الرائحة المضرة، تعطي إشارات للمقابر وتحمي الأفكار الماكرة. أنظر الى مقبرة بيار لاشيز في باريس، هي "مقبرة أشجار". وحسب المناطق، تزرع في المقابر على مساحة خاصة في الأرياف هناك السرو.
في منقطة بواتو هناك الجوز، وفي الريف الانكليزي الصفصاف الباكي، وفي بعض المقابر الأميركية، بعض الموتى يوصون بزرع شجرة على مقبرتهم من صنف معيّن. طبعاً، بعض هؤلاء يعتقدون أنهم لا يموتون تماماً إذا كان DNA خاصتهم يعبر عن الشجرة التي جذورها تنغرس في المقبرة وتتمدد وتتوسّع وتقفز بالروح مجدداً خارج المقبرة. استيهام للموت مستعاد عبر العلم.
في القرن التاسع عشر في بعض المقاطعات الأوروبية، تزرع شجرة مع ولادة الطفل. في ألمانيا هي
شجرة تفاح بالنسبة للصبي، وشجرة إجاص بالنسبة للفتاة.
مع التمني أن نمو الشجرة يترافق ويتناغم مع نمو الطفل، والشجرة تقوم بالحماية. إذاً، الشجرة هي حارس الطفولة. حتى سنوات الستينات في ليموزان كان ممكناً ملاحظة ذلك وإلقاء التحية على أشجار محددة بأسماء أصحابها.
لماذا تقول إنَّ للشجرة القدرة على إضفاء القداسة على المكان؟
- لا نعد في العادة الأشجار الموشحة دينياً أو المقابر.. هناك إشارة الصليب في المسيحية، التي تؤشر الى ذلك والمحفورة على الخشب وتشير الى وجود الله .وهناك عصا النبي محمد الخشبيَّة، ترمز الى المسلك أو الدرب الايماني واليقين. في القرنين الثاني والثالث غيّر آباء الكنيسة أداة التعذيب الى مواد قداسة. الصليب صار شجرة حياة تصعد من الأرض باتجاه السماء. وعلى هذا النحو انتصار على الموات وثأر من كارثيَّة السقوط.
والجواهر التي استخدمت لبنائه، أثارت جدلاً واسعاً لكن تستبقى أربعة أنواع من الشجر: السنديان/ الأرز/ الزيتون/ السرو. كتب في المزامير في الخامس عشر: الساحات والواجهات امتلأت بالصلبان التي تخضر من جديد.
فالصليب في الجبل والذي رسمه كاسبار ديفيد فريدريش يربط ربطاً حميماً ووعوده وحيوية النبات.
ذهب شاتوبريان في الكتابة إلى القول إن الغابات كانت مصدر إيحاء للمعمارية القوطية، وبأن الغابة شكلت النماذج من خلال أوراقها، أغصانها، براعمها وفي عقدها للفن الوقطي. "حتى الى ضجة الرياح التي تحدثها والتي تجري في عمق الخشب". شيء أكبر من كل هذا، وهو أن وجود الشجرة غيّر كثيراً من طريقة الإحساس بالمساحة. ولكن هذا تجاوز الشعور الديني، الى شعور أقرب الى الوثنيَّة.
مع هذا غالباً ما ارتبطت الشجرة بالشيطان!
- في سفر التكوين بررت العلاقة بين الشجرة والشيطان وحضور الشجرة في رسومات الجحيم. فالشجرات الممسوخة التي رسمها جيروم بوش، في "حديقة التلذذ" هي رموز تجارب الإغراء. تلك الشجرات ليست خضراء ولكن سوداوية ولكن مكسرة ومعقدة. أغصانها ليست مستقيمة، شجرات لا تحمل فاكهة ولكن أشواكاً سامة.
المنتحرون يتحولون أشجاراً جهنميَّة. هذه الشجرات الملعونة هي بمثابة عقاب على أفظع الخطايا لأنّه عند القيامة لا يتم توحد الروح والجسد، وشنق يهوذا نفسه في شجرة تين يعني إثارة رعب مقدس. وتسمى تلك الشجرة أيضاً "شجرة يهوذا".
اذاً، بعض الشجرات تصير أكثر فأكثر أبلسة من الأخرى؟
- أول ما يتبادر الى التفكير شجرة التفاح، الفاكهة التي استخدمتها حواء في إغواء آدم وقادته الى تجربة الخطيئة والسقوط. ورمزية شجرة التفاح تطورت وتحولت أيضاً الى شجرة المعرفة وتأخذ مكانها بقوة بالنسبة لشجرة الجنة.
الأساطير الأوروبية تتحدث عن شجر السنديان كموطن الساحرات الشريرات.
ولكن الشجرة الملعونة بامتياز هي شجرة أقرب الى طقوس التزيين، وهي شجرة مدعاة للخطيئة الحزن، الوحدة (...) وإذا نذهب أبعد من الأسطورة نقرأ أن ملك (Eburon) استمرَّ بتناوله أوراق . "Lif" كل شيء سام فيها: الأوراق، الفواكه، جذورها، قشورها، ماؤها. هذا السم الموجود هو الماء الذي استخدم لقتل والد هاملت كسمّ زعاف. فيرجيل يمنح ظل الـLif" فائدة لتظليل البيت.
والبعض الآخر في العصر الوسيط وصفها بشجرة الظلمات، تلجأ اليها الحيوانات تغفو في ظلالها مع خطورة الإصابة بالحرارة وبأوجاع في الرأس أو خطورة أن تلتهم حتى بأفكار مقلقة. تحت شجرة "Lif"، هناك خطر الموت الزاحف بقوة أو المتحرك بقوة.
في اليونان، كانت شجرة الزيتون التي كان أفلاطون يعلم في ظلها قطعت هذا الشتاء كحطب للتدفئة، ماذا يعني هذا في عصرنا؟
- أيام الأغريق، كان كل من يقطع شجرة يعاقب بالموت. بعدها خفت الغرامة في القوانين، هذا ما حصل في أثينا. لكن ما ورثناه عملياً من ذلك الزمن هو قطع الشجر والغابات من أجل توسيع الطرق وإتاحة المجال لمرور السيارات بانتظار أن يأخذ رئيس البلدية هنا أو هناك قراراً بمقاومة هذا الاتجاه، وتحديداً عدم قطع الأشجار المعمرة والبعض اقترح استبدال الأشجار المقطوعة بنوع من الشجر لا يفقد أوراقه مثل شجر "الخوخ" أو بأشجار بلاستيكية، لِمَ لا؟
بسبب العمران المدني، والتلوث، اختفاء بعض الأشجار المعمّرة يتزايد؟
- بالنسبة للإنسان، الشجرة بركة، بعض الأشجار في كاليفورنيا عمرها أكثر من 90 ألف سنة، وهناك شجرة سنديان يصل عمرها الى 130 ألف سنة، هذه أشجار بعمر خارق صعب على الفهم بالنسبة لنا.
هذا درس في الإذلال بالنسبة للإنسان، أن يعمد الى قطع الأشجار، حتى لو مثلت هذه الأشجار المعمرة نوعاً من المتحجّرات الحية. فالشجرة هي تاريخ وهي الزمن، الذي لا يشبه غيره. وهي الشاهد الصامت على التاريخ الإنساني وعلى الحروب، وحتى على ما قبل التاريخ. من رأى الأشجار قبل ظهور الإنسان، يتحدث عن ملايين السنين من ظهور الكوكب الأرضي.
في مطلع القرن التاسع عشر كتب عالم نبات سويدي: "تعطينا الشجرة المثال على النمو، غير المحدد بأسباب خارجية نقطة نطلق عليها مؤبداً الشجرة الأبدية".
علماء النبات في القرن الواحد والعشرين اكتشفوا أن بعض الأشجار تأخذ شكل الجسد، وحتى تسيطر على الحركة، وعلماء نبات آخرون أشاروا الى أشجار تملك ذاكرة، وأشجار تحضن الشجيرات الصغرى وترسل لها مواد غذائية، ماذا يعني هذا؟
- عالم النبات الحديث يشغل دوراً إحيائياً، وبعد إعادة تقويم عالم الحيوان وإعادة تقديره بإضافة قيمة جديدة على تصرفاته. هذا العالم يعطي الأشجار سلوكاً يمكن وصفه بالذكاء.
لوقت طويل طرح نقاش حول قدرة الشجرة على الإحساس، ("الحيوانات كما النباتات هي كائنات من نفس النظام" كتب بوفون)، الطبيعة مرت أحياناً بملامح ما غير محسوسة، لا ينبغي النظر الى الغابة على أنها تجمع أشجار، ولكن كمجموعة من الكائنات. حتى أن أفلاطون تحدث عن "الروح الغامضة". الشجرات لديها حساسية هذا الرمز مشكوك به، ولكن لا أستطيع أن أذهب بعيداً على مذهب أرسطو. أبقي على حدود ما بين النبات والحيوان والشجر والإنسان.
هذا لا يلغي فكرة التأثر جداً بعالم النبات، العالم الحساس والحاضر بقوة وبتلك الإبداعية النباتية.
وماذا عن البعد التشبهي أو التجسيدي في ما خص "التلقيح النباتي"؟
- منذ القدم يعطي النبات والشجر البعد الجنسي، شجر السنديان عنوان للرجولة على الأرض، شجرة التين للاكتفاء الجنسي، شكل الفواكه يؤثر على الأعضاء الذكورية، والأساطير تعطي الأشجار تصاوير مختلفة. هذا ارتباط وثني أكثر، من مثل العلاقة بين الشجرة والإنسان أو الشجرة والمرأة. الموضوع شغل كثيراً من الفنانين والكتّاب: المرأة تحت الشجرة، المرأة في الشجرة، المرأة الشجرة. بروست أكد أن الشجرة تهمز بإثارة المرأة. ماتيس صرّح بأن رؤية الشجرة تبعث أوتوماتيكيا صورة جسد المرأة. ايروتيكية الشجرة تبعث الرغبة في الأبدية. وحين تحاول المرأة وبقوة الهرب من الرجل، تلجأ الى الشجرة: مغامرة في الهرب من رغبة أبولون حيث تحولت الى شجرة هرباً من الأخير. أوفيد أيضاً قص ردة فعل أبولون: "حيث أحاط بسواعده وذراعيه جذع الشجرة وغطى جسد الخشب بقبلاته"، وصرخ: "صرتِ شجرتي". هذا نص أدبي عميق حول الرغبة لدى الشجر.
وماذا عن العودة الى الطبيعة وماذا تحمل من هذا الإطار في رؤية جديدة؟
- الشجرة تسكن هذه الحركة الفكريَّة. يجب مواجهة عملية التصحّر وإعادة تشجير الأرض أو ما نسميه "الرئة الخضراء التي تستنقذ الكوكب" ثمة حركات اكيولوسية مهمة تشتغل على هذا الموضوع في مواجهة التلوث والتصحر لمواجهة نهايات الكوكب الأرضي والمواضيع البيئيّة من القضايا الدوليّة العابرة للحدود. الظاهرة ليست جديدة. منذ القدم ثقافة الشجرة والعلاقة مع الطبيعة قائمة.
والشجرة تملك حجة حقيقيّة للعودة إلى الطفولة، إلى الكوخ في الغابات، إلى الروايات والاغتيالات (الأشجار واغتيال مرزوق. عبدالرحمن منيف). شجرة جبران خليل جبران المملوءة بمآتي الفصول، مسنّة، راسخة الأعراق، تختبر صيف العمر وشبابه، عواصف الدهر وأنوائه، ترتعش مع نسيم الفجر، وهواء البحر، قصائد تكتبها الأرض في السماء. إنها تمثل الجنة المفقودة، التي نقطعها ونحيلها ورقا نضمّنه قصصنا، وشغفنا بالعودة الى البدايات والمشاعر العفوية الجميلة. أو نحيلها مجرد نظرات من نافذه المقهى في ذلك الشارع المديني، الذي ما عاد يبتسم، إلا لشجرة تقف وحيدة في ذلك المكان.