لعبت التيارات الوطنية والقومية في عالمنا العربي الاسلامي ادوارا سياسية خطيرة ابتعدت كثيراً عن مفاهيمها الفكرية الاصيلة وتطلعاتها الاجتماعية والتربوية والقانونية، لذلك وقعت في شراك العقم السياسي، وفقدت جوهرها التنموي واخفقت في بناء الدولة الوطنية والقومية. والسؤال: لماذا حققت الفكرتين مبتغاهما في الغرب واخفقت في عالمنا هل هو عمق الفجوة المعرفية ما بين فهمنا للفكرتين وفهمهم؟.
من يقرأ جيداً تاريخ الافكار السياسية سيكتشف الاختلاط المصطلحي الذي تحفل به الكتابات الغربية بين مفردتي الوطنية والقومية، فتارة تتمازج المفردتان واخرى تفترقان، وتوضع لهما تعريفات فارقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن تاريخهما المفهومي الغربي يستدعي منا المراجعة منذ دخول المصطلحين الى القاموس السياسي الغربي لمقاربة تطور مسارهما المفهومي وأبعاده المعرفية، ولقياس تأثيراتهما على الفكر والواقع السياسي العربي الاسلامي .
على ان هناك حقائق ثابتة لا يمكن اغفالها وهي :
الحقيقة الاولى هي ان الفكر القومي منذ نشأته كان إحد مبتكرات الفكر السياسي الأوروبي، وكان للرواد من المفكرين مثل جان جاك روسو وجوهان غوتفريد هيردر وجوهان غوتليب فيختة الفضل في انتشار المفاهيم الوطنية/ القومية حتى اصبحت الفكرة القومية هي التعبير السياسي لنشأة الامم الاوروربية ولتأسيس دولها. وقد أثارت الفكرة القومية حينها جدلاً كبيراً في اوساط المفكرين الغربيين، وقسمت الى اصناف، وقيل بالقومية الخيرة والقومية الشريرة...الخ.
والحقيقة الثانية ان الفكرتين القومية والوطنية ارتبطتا بافكار سياسية وثقافية وحقوقية عديدة، فقد كان روسو يربط الفكرة الوطنية بالحرية، ويربطها هيردر بالاستقلال،حيث اطلق دعوته لكتابة أدب قومي متحرر من الوصاية الأجنبية. وهكذا فعل فيختة في كتابه “خطابات للأمة الألمانية” اذ عبّر عن إيمانه بالروح الوطنية (القومية) الالمانية، و ربط الوطنية بالتعليم، وطالب بأن يكون التعليم الزامياً، فلا تحرر بنظره من دون تعليم .
والحقيقة الثالثة هي ان الفكرتين القومية والوطنية أنهتا تماما هيمنة الكنيسة على الدولة والشعب، فقد أنضج التنويريون الحاجة لابعاد الفكر الديني عن السياسة، وجاء الفكران الوطني والقومي ليحلا محل الفكر الديني في القرن الثامن عشر الذي انتعش فيه الحراك السياسي والاجتماعي الاوروبي بفعل الثورات والانقلابات والتقلبات السياسية.
والحقيقة الرابعة هي أن الكتابات الوطنية والقومية الاوروبية كانت منشغلة بقضايا العدالة الاجتماعية وبمفاهيم التحرر والاستقلال ونشر التعليم. وربما يكون افضل ما ابتدعته الفكرتان الوطنية والقومية هي اللوائح القانونية الضامنة لحقوق الانسان، فمن فرنسا انطلق الميثاق العالمي لحقوق الانسان، الذي حمل افكارا سياسية وثقافية وتربوية واقتصادية وأعد الفضاء للديمقراطية. ساعد على انتشار الفكر القومي امتزاجه بقضايا الحقوق والحريات والسيادة والوطنية والثورية . انتشرت هذه المفاهيم بعد الثورة الفرنسية وفرضت نفسها على الفضاء السياسي الاوروبي .
على الرغم من القفزة الفكرية التنويرية للفكرتين الوطنية والقومية ودورهما في تقدم المجتمعات الاوروبية فقد شهد القرنين التاسع عشر والعشرين توجهات ادبية وفكرية وسياسية لإعادة تقييم الفكرتين على اثر الحروب القومية الدامية التي عرفتها القارة الاوروبية .. حيث سادت افكار تفرق ما بين الوطنية والقومية، وفي هذا المجال ادلى العديد من المفكرين والادباء والسياسيين بدلوهم لتقديم تعريفات متعددة ومتناقضة ايضاً للفكرتين . ففي مقاله المعنون “ ملاحظات على القومية” كتب الاديب البريطاني جورج أورويل (1903-1950) أنَّ الوطنية إخلاص لمكان ونمطِ حياة مُحدد، واعتبرها دفاعية عسكريًّا وثقافيًّا. وفي المقابل، قال بعدم انفصال القومية عن الرغبة بالقوة أو السلطة. إذ يسعى القومي لتأمين المزيد من القوة والهيبة لأجل الأمة وقد اختار أن يمحي فرديته لأجلها ، واورويل هو صاحب القول المشهور “القومية هي أسوأ عدو للسلام”. وعلى العكس من ذلك، جعل جان جاك روسو من النزعة الوطنية مرادفاً للقومية.
وقبل ان ينشر اورويل ملاحظاته على القومية كان فولتير(1694-1778) قد وضع ملاحظاته على الوطنية/القومية، اذ كان يرى بأن حب الوطن وحب الإنسانية متعارضان، فكتب: “من المحزن أنه لكي يكون المرء وطنيا صالحا، لا بد له من أن يكون عدوا لباقي البشر ذلك هو الشرط الإنساني، الذي يجعل تمني المرء العظمة لبلده، تمنيا للشر لجيرانه. ان من يريد ألا يكون وطنه أكبر ولا أصغر، ولا أغنى ولا أفقر، هو ذلك المواطن الكوني. ومع ذلك فعند تقدم العمر، يرق قلب الإنسان على وطنه ويفضل الخبز في بلده على الحلوى في الغربة”
وقد ترددت الافكار السلبية عن الفكرة القومية لدى عدد كبير من القادة السياسيين الاوروبيين اذ قال الرئيس الألماني يوهانس راو الذي حكم بلاده من 1999الى 2004 “أنَّ الوطني هو من يحب بلاده، والقومي من يكره البلدان الأخرى. اما الجنرال شارل ديغول وهو البطل الوطني والرئيس الفرنسي الذي حكم من 1959 الى 1969 فقد اعتبر: أنَّ الوطنية هي تقديم محبة شعبك أولاً، والقومية تقديم كراهيتك للآخرين أولاً” .
انتشرت هذه الاعتقادات لدى قيادات المجتمع السياسي الاوروبي، بسبب ما خلفته الحربين الاولى والثانية من دمار وكوارث. حتى ان المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي يصف القومية “بأنها الفساد المروع الذي يسمم الحياة السياسية لمجتمعنا الغربي الحديث”.
تلك هي ايجابيات الفكرتين الوطنية والقومية ومثالبها في الغرب، لقد ازاحتا الفكر الديني ونزعتا عنه السلطة السياسية ودافع الوطنيون عن اوطانهم وبنيت دولهم القومية وحين بدأت المثالب تتفشى في الجسد السياسي قامت صروح الدول المدنية وانتصرت فكرة المواطنة.. حدث ذلك في وقت اغفلت احزابنا الوطنية والقومية الابعاد القانونية والتنموية والحريات وعجزت عن بناء الدول الوطنية والقومية فقد انشغلت بالمظهر واهملت الجوهر ومازالت ترواح مكانها.