نكوصُ التماهي وتفرّد الشخوص

ثقافة 2024/08/08
...

  د. مسار غازي


تنفتح نوافذ الطرح الابداعي للمجموعة القصصية "مُتنزَّه الغائبين" لميثم الخزرجي، التي صدرت مؤخرا عن دار سامراء للطباعة والنشر على إشكالية مهمة، تتمثل بمحنة الذات الواعية التي تعاني من عدم اندماجها أو تماهيها الكلي مع وسطها الاجتماعي. وإن نكوص تماهي الذات الواعية مع المجتمع أو الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه يكون نتيجة انقسام تلك الذات على نفسها بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وبسبب الاستبداد الواقع عليها تشعر تلك الذات بالانكسار وعدم الاندماج حيث تعيش في عالم لا تستطيع السيطرة عليه، وتشعر بالعجز عن تغييره . لا تمارس حريتها وبذلك تفقد وجودها ويصبح وجودها مثل العدم أو على الأقل مثل الوجود الطبيعي للأشياء، فالوجود الإنساني بلا حرية يصبح وجودا طبيعيا ويصبح شيئا، فيغدو جزءا من عالم الضرورة، وعدم الاندماج أو عدم التماهي كما يسميه علماء الاجتماع  ليس ظاهرة نفسية خالصة أو ظاهرة يدرسها علم النفس المرضي، بل هي ظاهرة وجودية يدرسها علم النفس الوجودي، فالنفس في بدن والبدن في عالم وهو ما أسماه الفلاسفة الوجوديون (الوجود في العالم/ In-der-Welt-Sein )(1).

وتتصف الذات غير المندمجة بوصفها منفلتة من الجاذبية المجتمعية ساعية نحو تجربتها الخاصة البعيدة عن التماهي مع الآخر. بل إنها لا ترى قيمة ما لكثير من الأهداف والمفاهيم والقيم أو الشعارات، التي تخص فئات يؤمنون بها ويثمنونها. وكما يتميز هذا النوع من الشخوص بحركة دائمة من الانسحاب المتواصل والعجز عن مسايرة الحاضر أو الواقع، ومعاداة الخارج فضلا عن الشعور الدائم بالاضطهاد والرفض التام لكل المواضعات المتعارف عليها. فهو احتجاج دائم على ثقافة المجتمع وأخلاقه وقيمه ومواصفاته(2)، أيّ أنَّهم يشعرون بالعجز عن القيام بالدور المنوط بهم، والمهمة الملقاة على عاتقهم، وهي تغيير المجتمع نحو الأفضل والأجمل.  يقدم لنا القص في محطته الأولى من المجموعة "الدائرية القصِية" على لسان بطلتها الطبيبة النفسية، التي تسرد لنا حالات متفردة لمرضاها التزموا الصمت عن الحديث، معلنين من خلال صمتهم احتجاجهم ورفضهم لواقعهم، ولعل الطبيبة ذاتها كانت ناكصة عن كل ما يحيط بها في هذا الوجود سوى مرضاها، إذ كانت تجد في كل حالة تباشرها إجابة لكثير من التساؤلات التي تجتاح تفكيرها، هي ترى (أن الإنسان خلق بمفرده، ويموت بمفرده أيضا، وما يتعلق بالحياة من صح أو خطأ يتحمل وزره هو، ولا شأن للآخر به). لذلك لم تكن تكترث بما حولها بل إن جلَّ ما يشغل يومها هو ملفات مرضاها وتحديدا الحالات التي كانت تستثير دهشتها أو كما تعبر هي عنه (أقف بحرص حيال الذي يثير دهشتي، أو يسبب لي أرقا)، ومن تلك الملفات ملف السيدة "ويكهام" التي اختارت الرسم منفذا تبوح من خلاله بكل ما يخالج  روحها وما يكتنزه ذهنها رافضة لواقعها البائس محتجة بفرشاتها. لوحاتها كانت خطابات رفض وتمرد على واقع مأزوم لم تستطع التماهي معه كما تنقل لنا الطبيبة (ويكهام لم تكن ترسم بل تدون مأساتها.. نزعت إلى مكان حر وجدت من خلاله التعبير عما تكن وتقسو من غير أن تقصده، أو لعلها تقصده) لجوء ويكهام إلى الرسم يكشف عن رفضها للظلم، الذي وقع عليها من أقرب الناس إليها وهو زوجها.

   فيما يأتي عدم تماهي حميد الجبران بطل القصة الثانية (الماثل في الفراغ) رسام الكاريكاتير الذي كان يعمل محررا في مجلة (فن وتشكيل) الاسبوعية، نتيجة فقدان جميع أفراد بسبب زلزال ضرب مدينته، والذي خرج الجبران على أثره من دون صوت، إذ تعرض لصدمة عصبية أثرت في حباله الصوتية، ولعل الجبران وكما يخبرنا السرد بعد فحص الطبيب له أن حباله الصوتية سليمة ولكن يبدو أن الجبران (يعاني من نكوص ذهني ليس له بد من أن يعبر عن مأساته، وقد يصل إلى انحسار نفسي عظيم يجعله يهذي محاولا أن يستخرج صوته، وهذه كانت نقطة بعيدة المنال تمكنه من استيعاب الحقيقة). لعل الجبران وجد في صمته وسيلة للهروب من واقعه المأساوي، فانتخب عالمه الخاص في حجرة صغيرة ومجموعة من الأوراق البيضاء، وأقلام التلوين ليدلو عليها بكل ما تمور به نفسه وما تزدحم به مخيلته من أفكار.

  وهو حال "متريانو " الدليل السياحي لمتحف الفلاسفة في قصة (حجرة المرايا) الذي كان يبحث عن ظل لوجده في غرفته التي عمدها بالمرايا ناكصا على (ماضيه إذ كان يرى القادم بماضيه الغزير بالذكريات ليبصر مستقبله بعينيه السائرتين إلى الخلف غير آبه بالسبب). ولعل عدم تماهيه مع الواقع جاء بعد  موت زوجته وابنته فهو لم يقوَ على تحمل فقدهم، ذلك الفقد الذي أشعره بالعجز والذهاب به إلى عالم الأرواح المعلقة والمتماهية معه، العالم المشبع بروح زوجته وابنته، إذ كان يشعرهم ولا يدرك أجسادهم( لا يريد أن يتقدم بل يقف معهم إيمانا منه بأن المسير إلى الأمام / المستقبل اقتراب من الأجل).

    على حين لجأ الدكتور "وارشو " المختص في علم الوراثة إلى التخاطر مع الآخر ليجيب عن كل تساؤلاته إزاء ما يحيط به  كما يخبرنا القص (سمة التخاطر ما زالت ملازمة له كونه يشعر حال توليه جهة معينة بتماهي رسائل عابرة لينغرس محتواها في ذهنه أو يعلق شيء من معالمها)، لجوء وارشو إلى التخاطر لأنه لم يكن يأمن الوسط الي يعيش فيه فهو يشعر دوما بالخطر ولهذا كان دائم التساؤل: (هل أن امحاء الخطر يقي الإنسان من الموت؟ وهل أن الخطر العضوي وحده المؤهل للفناء؟) بل إن وارشو كان يرى أن العقل المتصحر سببا أساسيا للإنحسار، الذي يصيب الإنسان وتداعيات الوحشة والتشاؤم الكلي المؤثرة على كينونته حتى مع سعة مقتضيات العلم والتكنولوجيا التي تعين مصيره.

فيما لجأ " سباهي" بطل قصة (متنزه الغائبين) وهي القصة الاساسية التي أُخذ عنوان المجموعة منها، إلى الصمت أيضا يقول (ما بين الليل والموتى حكاية لا يفقها إلا الذي زاول الصمت في لعبة الحياة الصاخبة، خارجا حيث الألسن التي تصرخ والآراء المتقمطة بالسواد، لا وجود للصوت الذي يريد أن يبدد المرويات ويهش الأثر في داخلنا، كنت ممن تفردوا بأن ألعن الفجيعة بالموسيقى، وادحر النوائب بالنغم لأدون الأحداث بالنوتات وأطلقها للريح ليخالجني شعور بالراحة). وعليه نجد أن النماذج التي يقدمها الخزرجي في (متنزه الغائبين) هي ذوات غارقة بالقيود السوسيولوجية المحيطة بمحمولاتها الفكرية ما لبثت أن تبحث عن وسائل بديلة تسهم في نشر أفكارها ورؤاها. فتلك الوسائل في الحقيقة تمثل مظهرا من مظاهر التحرر والدعوة إلى الفكاك من سوسيولوجيا القيود المجتمعية بجميع أشكالها، ومختلف أنماطها ومستوياتها. ومن الملاحظ  أن عنوانات القصص في داخل المجموعة التي انتخبها القاص ذات  دلالات سيميائية ايحائية تحيل على  الثيمة ذاتها في المتن وتضفي مشروعية على النص، ذلك أن اللغة تحمل دلالات موحية تكون أكثر قدرة على تصوير الحالة النفسية للشخصية، وكما تحمل القارئ على التأمل الطويل والنظر إلى ما تنطوي عليه من قيمة ذاتية تساعدنا في الكشف عن مشاعر واحاسيس مختلفة قد تنطوي عليه تلك الشخصية.


هوامش

( )الهوية والاغتراب في الوعي العربي: حسن حنفي: 11.

( )الاغتراب اصطلاحا ومفهوماً وواقعاً : قيس النوري: 31.