العشاء الأخير للغرب

منصة 2024/08/08
...

 د. حيدر عبد السادة جودة


لا يختلف أحد على كون ما رسمه ليوناردو دافنشي ورائعته الموسومة بـ "العشاء الأخير"، على أنها تمثل أشهر ما رُسم في التاريخ، وذلك يعود إلى تراجيديا قصة الرسم من جهة، ودقة التفاصيل التي أوضحت الخيانة من جهة أخرى. ولا نودُّ الخوض في صقل سمات تلك اللوحة، أو الحديث عن رسّامها، نحن نودُّ أن نبين أن العالم الغربي في طور عشائه الأخير قبل الزوال والانجراف نحو أبشع قعر في دار التخلف والانحدار.

لطالما قدّم الغرب نفسه باعتباره الأنموذج الأقدر والأصلح لقيادة الذات البشريّة والانتقال بها إلى طريق التقدم والازدهار، وتبدّى ذلك واضحاً وجلياً في معالم اليقظة العربية التي بدأت بعد الاحتلال الفرنسي لمصر، فانقسمت التيارات الفكرية وحتى السلطات السياسية والدينية تبعاً لنظرها إلى الوافد الجديد، فمن تبنّاه أطلق على نفسه بوابة الدخول نحو الحداثة، ومنهم من عارض ذلك الوافد فنادى بالإصلاح وإحيائه للقيم الإسلامية، ومنهم من وقف موقف الحياد والتوفيق بين ما جاء به الوافد الجديد من جهة، وتعاليم الإسلام الأولى من جهةٍ أخرى. وفي كلِّ أحوال النظر، فإن العالم العربي كان مشغولاً بتلك السلطة المهيمنة، سواء كانوا قابلين به أو مارقين عليه.

وإذا ما أُثير التساؤل الشهير الذي طرحه شكيب أرسلان: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب المسلمون؟ فإن الإجابة الحقيقة على ذلك إنما تتمثل بانبطاح العالم العربي تحت سطوة ذلك الأنموذج، فليس لنا أن ننظر إلى ثالثٍ، فأما الانصهار معه، أو الافلات منه. وكلا المحاولتين قد أسست لعدم امكانية الإبداع والابتكار، وبقينا في جوف معالم التقليد والاتباع، لأن الأولُ إنما يُكتب له النجاح، فإن ذلك لا يكون إلى عن طريق التفكير خارج حدود وأسوار الانموذج المهيمن.

أما اليوم، فقد آن الأوان إلى إعادة النظر فيما آلت إليه شناعة الغرب في الدين والسياسة والفن، فلقد انكشف ذلك الزيف الذي كنّا نتودد إلى محاكاته وإعادة صبّه في قوالب جاهزة، كلُّ ذلك كان كفيلاً بأن يجعلنا أُناساً مرددين ما تتناقله وسائل الإعلام الغربي.

ومن المفاهيم التي لم يكن الغرب الحديث أميناً لها هو مفهوم العلمانية، التي تسلّطت على رقابنا باعتبارها الخيار الأفضل في سبيل علاج قصورنا وفقرنا نحو التقدم والازدهار، فإذا نشأت العلمانية في الغرب على اعتبار صيانة الحرّيات، وفصل الدين عن الدولة، بالحفاظ على معالم الحرية الدينيّة، فإن ما فعلته فرنسا سابقاً يمثل خدشاً لا أخلاقياً لملايين المسلمين في العالم، فقد دافع الرئيس الفرنسي عن حرية شخصٍ أساء لرسول الإسلام على حساب حرية الملايين من البشر، وهذا ما ليس للعلمانية في شأن، فإنما اقتضت العلمانية أن تحقق فصلاً يقوم على الإيمان بكلا المفصولين بالرغم من بون ما بينها. ومن بين أكثر الدول إيماناً بالعلمانية، والتي مثّلت النواة الأولى لنشأة الفلسفة البراغماتية، نجد أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب يستعين بالقسيسة "بولا"، مستشارته الروحيّة، لتصلي وتدعو الملائكة لفوز رئيسها، فتقول: اسمع صوت النصر من السماوات... الملائكة آتية إلينا.. باسم يسوع وقوة الملائكة سيأتي النصر.. وهذه خيانة أخرى لفصل الدين عن الدولة، العصب الرئيس لفكرة العلمانية.

من جهةٍ سياسية أخرى نشاهد الانفلات الأمني في أعظم دول العالم وهي أمريكا، والتي تصدّر لنا نفسها باعتبارها الانموذج الأقوى والأكثرُ أماناً بين بلدان أوروبا وفي تاريخ بلدان العالم، لنتفاجأ بهشاشة أمنها بحادثة اغتيال المرشح الرئاسي للولايات المتحدة ترامب الذي نجى بأعجوبة من محاولة قنص من مسافة ليست بعيدة. وهذا ما يسلب منها ادعائها بالسلام والأمان. ومن جهةٍ ثالثة نجد بشاعة الصور التي يُقدمها نتنياهو وكيانه المغتصب بحق الأطفال والنساء في غزّة، فإن ما يمثلهُ قد اخترق مفاهيم الحرية والرحمة والاعتراف بحق الآخرين من حقوق، فقد تجاوزها بتجاوز الغرب لمعايير الأخلاق والفضيلة، لتتبين لنا الصورة الحقيقة للمفاهيم الزائفة التي يرددها فلاسفة ومفكري العالم الغربي.

وكان حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 في فرنسا، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، بألوانهم المزيفة فإنهم لم يقدّموا لنا لوحة العشاء الأخير، بل ساهموا في تقديم صورة العشاء الأخير للعالم الغربي، قدّموا لنا النهاية المحتومة لكشف زيف ذلك الوافد الذي انشغلنا به كثيراً، عملوا على تقديم الصورة الحقيقية لمجمل المفاهيم المخادعة والكاذبة والمزيفة، والتي تعاملنا معها سابقاً على أنها مفاهيم مقدسة، يمكن لنا من خلالها أن نغادر نفق التخلف والرجعية، ونبني من خلالها صرحاً من التقدم والازدهار

آن الأوان لكي نبدع بمعزل عن ذلك الأنموذج الهرم، ذلك الانموذج الذي كشفه الزمن، باعتباره نظاماً مقيتاً وجاهلاً وسقيماً، وليس له من نفع، آن الأوان لكي نُفكك همومنا ونعالج مشكلاتنا ونبني مستقبلنا بعيداً عن تلك السطوة المهيمنة زوراً، لأن الإبداع لا يُكتب إلا بالتخلي والانسلاخ عن مجمل المفاهيم المستوردة والمتبناةُ على كونها معيارا ما يمكن لنا أن نحكم من خلاله على صواب شيءٍ أو خطئه، لقد بانت الحقيقية الغربية جلياً، وما علينا إلا أن نزيح ستار ذلك الانموذج المهيمن، للنظر إلى حالنا وواقعنا، وذلك هو سبيل الإبداع.