الهواء ينتفضُ لراية منكسرة

ثقافة 2024/08/11
...

  د. داود رضا كاظمي*
  ترجمة: أسماء المدني
"الهواء فيلسوفاً
- دعهُ يسأل واستمع"
"ماذا يقولُ الهواءُ
لو أغلقتُ الأبوابُ أو الشبابيكُ بوجههِ؟
كيف يُصبحُ لَونُهُ عند الخجلِ؟
لو تجرَّأَ قليلاً، لو صارَ شاعراً
كيف يتغزلُ الهواءُ الذي يفتحُ باباً ما أو يغلقهُ
بالهواءِ الذي يداعبُ نخلةً أقصى الحديقةِ؟
لو أن الهواءَ شاعرٌ ماذا يقولُ لفتحةٍ أدنى تنورِة الشاعرة؟
ماذا يقول لعباءةٍ أقصى المقبرة
او الجنازة لُفت بغطاءٍ قديم؟!
ماذا يقولُ الهواءُ
المنتفضُ لرايةٍ منكسرة؟!".
تتسمُ هذه القصيدة ببنية متماسكة، ولغة بسيطة وسلسة، وتحمل معنى ورسالة بليغین. فإنَّ عباس ثائر يخلق ارتباطاً في المحور الأفقي والعمودي للقصيدة من خلال سوقِ الجمل المترابطة، فينتج هذا التماسك. بعض التكرارات تشكل منصات متشابهة - مثل تکرار هذه العبارة "ماذا يقول.." في بداية ووسط ونهاية القصيدة - کانت مؤثرة في خلق هذا التماسك البنيوي. یملك عباس ثائر بیانا تصویریا وتخیليا، إذ إن هذه القصيدة كلها مبنية على "تشبیهیَّة الأشياء" والشيء المقصود هنا هو الهواء، وهو حسب اسم القصيدة فإنّه فيلسوف يستطيع أن يحاورنا ويستمع إلينا. تبدأ القصيدة متسائلة: "ماذا يقول الهواء/ لو أغلقتُ الأبوابُ أو الشبابيكُ بوجههِ؟"، فإنّ الفلاسفة يتحدثون بحرية، بينما يمرّ الهواء من أي باب وشباك يريد - وبحرية كاملة.
سؤال الشاعر الآن یأخذ عمقًا فلسفيًا: إذا أُغلقت الأبواب والشبابيك في وجه الهواء الذي هو فيلسوف، فماذا سيقول؟ في الحقیقة، لیس هناك ما يُقال. فالحرية هي الشرط الأول بان تكون إنسانا، والحرية هي الشرط الأول لوجود الهواء أيضًا كما أن  الهواء یکون محسوسا من خلال حركته الحرة، والسکون بالنسبة للهواء بمثابة الموت. ولذلك، فإنّ غياب الحرية يؤدي إلى الخجل والموت لكل من الإنسان والهواء، ولهذا يقول الشاعر: "كيف يُصبحُ لَونُهُ عند الخجلِ".
کما یعد الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900) أن غياب الحرية يعدُّ عارًا مؤلمًا على الإنسان. يقول نيتشه: "أنا سأعرفكم على الإنسان الأعلى.. ما هو القرد بالنسبة للإنسان؟ أنه شيء مثير للسخرية أو شيء يبعث على الخزي المؤلم. الإنسان سيكون هكذا أمام الإنسان الأعلى: شيء مثير للسخرية أو شيء يبعث على الخزي المؤلم" (نيتشه، 2008: 22). من الضروري هنا أن نتحدث قليلاً عن مفهوم "الإنسان الأعلى" أو "الإنسان الكامل" في فکر نيتشه.
"الإنسان الأعلى" في نظر نيتشه، "يعني الإنسان الذي خطى حقاً إلى منطقة الحرية وتحرر من الخوف والخرافة والأفكار التي سيطرت على فكر البشر حتى الآن" (نيتشه، 2007: 354). بعض الخصائص الإنسانية في فكر عباس ثائر في كتابه "وللهِ أفكارٌ أُخرى"، وخاصة في طلب الحرية ومغادرة الخرافات، تتسم وتتجه نحو مفهوم الإنسان الأعلى. لكن الفلاسفة أيضًا يواجهون قيودًا في قول آرائهم وأفكارهم، لأن منظومتهم الفكريَّة تحدّها أطر محددة. وقد كان أرسطو أول فيلسوف وضع حدودًا واضحة بين المعرفة النظرية والمعرفة الذوقية والإبداعية، بل أبدى احترامًا خاصًا للمعرفة الذوقية والإبداعية وهي ما يجب التركيز عليها في الفن، وخاصةً في الشعر. (كاپلستون، 2009: 317). نعلم أيضًا أن العديد من الفلاسفة المعاصرين، ومن بینهم فيتغنشتاين، يعتبرون الفلسفة فعلا لغويًّا حیث يقول: "غاية الفلسفة هي التوضيح المنطقي للأفكار". (الأكوان، 2001: 300)، والفلسفة اليوم تُظهر ميلًا في المزيد من التعايش مع الفن والأدب، ربما لهذا السبب يرجّح عباس ثائر في بقية القصيدة أن يرى الهواء بحرية أكبر وفي هيئة شاعر جريء وبلیغ: "لو تجرأ قليلاً، لو صار شاعراً"، الآن يجب أن نرى كيف هواء يخطو ليصبح شاعراً وأكثر جرأة من الفلسفة، ما هي التوجسات التي يحملها". كيف يُتغزل الهواء الذي يفتح باباً ما أو يُغلقه، بالهواءِ الذي يداعبُ نخلةً أقصى الحديقة؟ لو ان الهواءَ شاعرٌ ماذا يقولُ لفتحةٍ
أدنى تنورِة شاعرة؟ ".
إنَّ تحول الهواء إلى شاعر تخلصه من اخلاقياته القديمة غير مرغوب فيها، التي كانت تتحكّم بفتح الأبواب وغلقها وبطريقة تعسفيَّة. الآن هو شاعر یتغزل في أشعاره بالهواء الذي يداعب نخلة في أقصى الحديقة وينظم الشعر من أجل فتحة أدنى تنورة شاعرة.
ولكنّ مأساة النساء في المجتمع لا يمكن علاجها بقصائد الحب فقط. في هذا السياق يتخذ الشعر توجّها نسويًا: "ماذا يقول لعباءةٍ أقصى المقبرة/ أو الجنازة لُفت بغطاءٍ قديم؟!"، الشاعر في هذين السطرين يضع وبمهارة، مشهدين جنباً إلى جنب، امرأة مرتدية العباءة في مقبرة بعيدة وجثة أیضا قد لُفت بغطاء قديم، ومن خلال هذا الإطار، ومن دون أي تصريح واضح في النص، يتحدى ويطرح تساؤلات حول الملابس المفروضة على المرأة، أو وربما أحوال المرأة اليوم- تحت سيطرة الأنظمة العقائدية.
وحسن ختام هذه القصیدة هو: "ماذا يقول الهواء/ المنتفض لرايةٍ منكسرة؟!"، حیث تربط القصيدة - بواسطة التضاد والتناقض الواضحين والملفتين- عقل القارئ بمفهومين، هما: "الانتفاضة" و"الانكسار". فأيُّ انتفاضة وأيّ انكسار؟ وبشكل واضح وبناءً على نص القصیدة، ينبغي لنا أن نستقصي حالة الهزيمة من امرأة ترتدي العباءة في مقبرة قصیّة، وبالتأكيد قد تكون لها آمال وطموحات انتهت بالخيبة، اما الانتفاضة فيجب علينا أيضا أن نلتمسها في الهواء الذي یتّسم بالجرأة ويتوق بان يكون شاعرًا، أو من شاعرٍ يعبّر فلسفیًا على لسان الهواء. فلیس هناك فرق؟! فإنّ الشیء المهمّ هو أن كل هذا هو جزء صغير فقط من المعاناة الإنسانيّة، والتي يجب التفکیر فيها بعمق.
*شاعر وناقد وباحث
وأستاذ في الأدب