كاظم لفتة جبر
يسعى الإنسان منذ القدم إلى اكتشاف ذاته، من خلال تعامله مع الموضوعات التي يتحسسها ويجردها، ويفكر في ذاتيتها عبر الصور التي يتخيلها، وكل صورة يتخيلها يشبه بها ذاته.
وتكمن حقيقة الذات في الشعور بالأنا الإنسانية الغائبة وسط ضجيج الحياة، فالصمت مفتاح الذات وخير ممثل لها، أما الكلام فشاهد عليها، وهذا الذي جعل قيمة الذات تتمحور حول اعتقادات الإنسان وبيئته. فالذات قد تكون هي الصورة التي يحتفظ بها الإنسان عن نفسه من أفكار وصفات واعتقاد، أو قد تكون الصورة المثالية التي يسعى لها، أو التي يكونها الآخرين عنه، لذا فالصورة عن نفسه تتغير من مرحلة إلى أخرى بدءاً من الطفولة حتى الشيخوخة.
ففي كل مرحلة يتعرف على شيء جديد تتغير معه صورته، فالذات صورة سائلة تتخذ من الموضوعات اطارا لها، لذلك تعد الذات هي الهوية المعبرة عن كل فرد
منا.
وتتجلى الذات في الأفكار من خلال الذاتية، وبالجسم من خلال الصورة الرمزية التي يحب كل فرد أن يظهر فيها، سواء من خلال اللبس أو الشكل، لذا فهي ظاهرة من خلال الجسد، وباطنة من خلال أفكار يحملها ويتبناها كل إنسان. وهذا الذي جعل أرسطو بتعريفه للذات يعتمد على عنصرين أساسين هما: الجوهر ويقصد به كيفية تلقي الأشياء المحيطة بنا عبر تحكيم العقل. أما العنصر الثاني فهو المظهر ويقصد الإحساس الخارجي من حيث الشكل. وهنا يجمع أرسطو بين مكوّنين أساسين في الإنسان وهما الجسد والعقل.وقد يتعرف الإنسان على صورة ذاته عند صراعه مع الآخر، سواء كان هذا الآخر إنسانا أو موضوعا، لكن يبقى السؤال من الذي يحدد صفات الذات للإنسان هل هي أفعاله مع الآخر، أم أن الإنسان يعرف ذاته
بذاته؟
الإنسان كائن يخضع لمتطلبات بيئة المجتمع، وظروف الحياة في تبني أفكاره، واختيار طريقة العيش، لكن صراع الذات مع الآخر تتجلى فيها صفات خاصة بكل فرد، فتنكشف صورة الذات والآخر معا، وقد تكون صورة محمودة أو مذمومة، بالنسبة للذات والآخر كلاً بحسب اعتقاده بالحقيقة، لأن الحقيقة نسبية في عالمنا. أما إذا أردنا معرفة حقيقته أي تصور أو فعل لكل ذات، يجب أن نخضعه لهرم القيم المتمثل "بالحق والخير والجمال" بعيداً عن كل أفكار واعتقادات
وإيديولوجيات.
فصورة الذات متغيرة ونسبية بين الناس عبر العصور، واختلاف الزمن والمكان، فذات البدائي والبداوة يرونها في الشجاعة، وذات القبلي والرجعي يرونها في احترام الاعراف والعادات والتقاليد، وذات المتدين يراها في الالتزام في الأخلاق والشريعة، وذات المتمدن يراها في احترام العقل والقوانين، وذات المتحضر يراها في احترام الآخر وصورة الجسد، وذات الفيلسوف يراها في تحقيق سعادة الذات عبر العقل والمشاعر، أما ذات العالم اليوم أصبحت موضوعا لقوالب جاهزة تستعرضها الشاشات في الشوارع، والرقميات عبر المنصات التواصلية.
الذات واحدة وتظهر من خلال الفكر، لكن صور تحقيقها غير ثابتة، وتخضع امكانية التحقيق من خلال الصورة التي يخلقها الإنسان لنفسه وتكون عن معرفة، أو مقتبسه من المجتمع، أو من قصص الأبطال والمشاهير. وتتصف الذات الإنسانية بصفات ايجابية وسلبية، فمن الايجابيات الشجاعة والكرم والعفة، أما السلبيات فهي الكذب والحسد والنميمة، وقد تكون بعض الصفات التي تجمع الإيجابي مع السلبي مثل الغيرة. فصور تحقيق الذات تخضع لمفهومي الخير والشر، فكل سعي للإنسان في أي مجال كان هو صورة من صور تحقيق الذات، فما كان السعي خيرا فهو باقٍ، وما كان شرا فهو
فانٍ.
والذاتية يمكن أن تكون فردية أو جماعية عبر سعي الإنسان لتحقيق أهداف وغايات تخصه هو، والذات الجماعية تظهر من خلال الدين والإيديولوجيات والجماعات، لكن يمكن أن تكون أرقى صور تحقيق الذات عبر تحقيق الانسجام والتآلف بين العقل
والجسد.