الشخصيّة الثانويّة الساندة دالّاً روائيّاً
محمد صابر عبيد
تخضع صفة "الساندة" الملحقَة بالشخصيّة الثانوية إلى إنضاج فكرة فعاليّة الإسناد التي تقترب فيها الشخصيّة الثانوية في الرواية كثيراً من دائرة الشخصيّة الرئيسة، لأن فعل السند لا بد أن يتمتع بدرجة مهمة من القرب كي يتمكن من القيام بمهمته على الصيغة المناسبة، ومن هنا نفهم أن هذا النوع من الشخصيّة الثانوية لا بد أن تكون له علاقة وطيدة على نحو من الأنحاء بالشخصيّة الرئيسة، وهو ما يرشحها لتقوم بهذا الدور في رفد الشخصيّة الرئيسة بعلامة محددة تمسّ جوهر تشكيلها.
وتعمل على توجيه مسار سرديّ لها يدعم حضورها في مقام واحد أو أكثر؛ بحسب الحاجة إلى ذلك انطلاقاً من الدور الذي تقوم به في التشكيل العام للرواية، في أنموذجها التقانيّ التشكيليّ وشكلها الثانويّ الساند. وبهذا المعنى تتشكّل الشخصيّة الثانويّة ذات النوع الساند بطريقة خاصّة يكون لها دور أكيد فاعل في التشكيل، فهي تتدخّل في صوغ طبقات مهمّة من طبقات الحدث الروائيّ من جهة، وتربط بين الطبقات والأحوال في حراك الشخصيّات الأخرى؛ على النحو الذي يساعد في إنجاز الرؤية السرديّة من جهة أخرى، بما تتركه من أثر في صياغة الحدث وتشكيله، وهي على هذا النحو لا تكتفي بالحضور العابر أو الطارئ أو المختصَر أو الجزئيّ؛ بل تسهم في التشكيل الحيويّ لمفاصل مهمة في الرواية، ولها دور أساس في ذلك يؤثّر في فضاء الصوغ العام للرواية.
يمثّل هذا النمط من الشخصيّة الثانويّة حضوراً بارزاً في رواية "عشّاق وفونوغراف وأزمنة" للروائيّة لطفية الدليمي الصادرة عن دار المدى، وهي الشخصيّة التي تحضر في خطوط السرد على أنحاء مختلفة لها إسهام واضح وأصيل في إسناد الشخصيّة الرئيسة من بعيد أو قريب، ووظيفتها الأساس في هذا الحضور هي فعاليّة الإسناد للشخصيّة الرئيسة من وجهات نظر مختلفة، إذ قد يكون هذا الإسناد ماديّاً أو معنويّاً، مباشراً أو غير مباشر، عفويّاً أو مقصوداً، كبيراً أو صغيراً، واضحاً أو خفيّاً، والأمر المهم في هذا السياق ما تتركه الشخصيّة الثانويّة الساندة من تأثير في الوسط السرديّ، وما تؤدّيه من وظائف مباشرة أو غير مباشرة تسهم في تطوير البنية السرديّة للحكاية الروائيّة، وذلك بمعرفة الشخصيّة الرئيسة التي يدور حولها الحراك السرديّ؛ وتسعى الإجراءات السرديّة كلّها في النهاية إلى خدمة هذه الشخصيّة لبلوغ المقاصد الفنيّة والجماليّة والثقافيّة التي تشتغل عليها الرواية.
تبرز بمعيّة الشخصيّة المحوريّة الرئيسة "نهى جابر الكتبخاني" مجموعة من الشخصيّات لها مساس مباشر بها وعلى تواصل دائم معها، ويمكن أن نعدّها على هذا النحو شخصيّات ساندة للشخصيّة الرئيسة المحوريّة مهما كان مستوى حضور الشخصيّة في الحدث السرديّ، إذ طالما أنّ تواصلاً لها حصل مع الشخصيّة الرئيسة بدرجة واضحة من درجات التفاهم والانسجام والتأثير، فهي في الأحوال كلّها شخصيّة ساندة تعتمد عليها الشخصيّة الرئيسة، لتقوم بواجبها في إسنادها وإسناد كامل الحراك السرديّ في الرواية.
تبرز في مطلع الرواية شخصيّة عاينّاها بوصفها شخصيّة ساندة أثارت انتباه "نهى" ويقدّمها الراوي كليّ العلم على هذا النحو: "إلى جانبها فتى أحمر الشعر يلعب الورق مع الكومبيوتر ويضع على أذنيه سماعة الموسيقى، يلعب بحرفية عالية، يبتسم ابتسامة ماكرة وتلتمع عيناه العسليتان لعله كان يغشّ مع نفسه ويتحدى قدراته بقدرات الآخر الغشاش المنبثق من أعماقه، ابتسمت للفكرة: أن يغش المرء مع نفسه، يخدع نفسه، ويفرح بفوز مغشوش تواطأ عليه مع قرينه الغشاش.."
تبدو الشخصيّة وكأنّها شخصيّة ثانويّة هامشيّة لا قيمة لها، لكنّ عناية شخصيّة "نهى" بها، وعناية الراوي بوصفها هذا الوصف المركّز جعل منها شخصيّة ساندة لشخصيّة "نهى" الرئيسة والمحوريّة في الرواية، فثمة شبكة من الصفات الشخصيّة أثارت انتباه "نهى" دعتها إلى مراقبته من كثب؛ بحيث صوّره خيالها وكأنّه يروم إثبات صورته عميقاً في ذاكرة السرد، ومفهوم الإسناد قد يأخذ شكلاً سايكولوجيّاً يجيب عن أسئلة معيّنة تندرج في فضاء الرجاء أو التمنّي أو الحلم، وربّما تعبّر جملة "ابتسمت للفكرة" عن مستوى من الانشغال يفوق الملاحظة المجرّدة على النحو الذي دفعنا إلى عدّ هذه الشخصيّة
ساندة.
يمكن أن تكون أفعال الإسناد التي تقوم بها الشخصيّة الساندة للشخصيّة الرئيسة ذات طبيعة نفسيّة في لحظة معيّنة خاطفة، إذ على الرغم من أنّ هذه الصورة السرديّة لهذه الشخصيّة كانت صورة وصفيَّة من أكثر من زاوية، غير أنّها وفّرت للشخصيّة الرئيسة فرصة عابرة لكنّها جوهريّة تمثّلت فيها بوصفها إحساساً مختلفاً في ظرف نفسيّ مهمّ لها، جعلها تؤكّد بشكل من الأشكال انتماءها إلى هذا الجوّ السرديّ الذي حصلت فيه اللقطة الحكائيّة
المصوّرة.
يتوافق المشهد السرديّ السابق للشخصيّة الثانويّة الساندة مع مشهد لاحق يكاد يتطابق على مستوى قوّة الدعم النفسيّ للشخصّية الرئيسة معه، بما يؤكّد الحضور اللافت على صعيد الوصف والتشكيل لتفاصيل هذه الشخصيّة وهي تتجلّى في نطاق حدث شعريّ مختصَر، تتكثّف فيه الرؤية السرديّة كي ينتج مقولته بما يجعل من الشخصيّة الثانويّة سبباً في إشاعة جوّ من الراحة لدى الشخصيّة الرئيسة، وبما يغذّي المكان والزمن السرديَّين بمزيد من الحضور والتفاعل والتشكيل؛ للوصول إلى فضاء سرديّ رحب يتعالى فيه حضور الشخصيّة الثانويّة الساندة على هذا النحو: "شابة شقراء على مبعدة مقعدين تغازل رفيقها وتقبله، تهمس في أذنه وتعبث بشعره وهو مستسلم لمداعباتها، تضع رأسها على صدره وتنام، يغطيها بمعطفه ذي ياقة الفراء، يمسّد صدرها وذراعيها وتنام في فردوسها الدافئ..".
يعقب هذا المشهد في السياق السرديّ نفسه مشهد لاحق يتوازى على نحو أكيد وفاعل مع المشهد السابق في حضور لافت، فتظهر شخصيّة ثانويّة ساندة أخرى كي تضيف حلقات جديدة لموقف الشخصيّة الرئيسة؛ وتدعم حاله السرديّة من وجهة نظر إضافيّة ذات طابع نفسيّ قد لا يبرز على النحو المطلوب في شاشة السرد: "السيدة المُسنة بشعرها القصير المصبوغ باللون الفضيّ كانت تحلّ أحجية الكلمات المتقاطعة في الصحيفة وتلقي بملحق الفلسفة الخاص بالفيلسوف (سبينوزا) المرفق بالجريدة في سلة المهملات وتبتسم لنفسها ثم تخرج حبة شكولاتة صغيرة من حقيبتها وتقضمها، الفتى أحمر الشعر يضحك ويضرب قبضة يده على المقعد الأمامي، فاز في اللعبة، غش وفاز، شاء أن يصدق فوزه بفرح زائف كلعبته".
تدخل الصورة المشهديَّة للشخصيّة الثانويّة الساندة في نسق سرديّ يبعث البهجة في المكان، ويحرّك التفاصيل السرديّة على نحو مختلف من زاوية نظر خاصّة، فشخصيّة المرأة المسنّة بتفاصيلها وحركتها وسلوكها؛ مضافاً إليها شخصيّة أحمر الشعر وتفاصيلها وسلوكها، يضاعفان من حركيّة السرد الملحميّ داخل الفضاء العام للرواية ويشكّلان مصدراً من مصادر الإسناد غير المباشر لحركة الشخصيّات، إذ يشغلان المكان بطريقة لافتة ومثيرة تسهم في دافع الحراك السرديّ الروائيّ إلى أمام؛ وتشغيل ميكانيزمات سرديّة وراء المشهد تعزّز الرؤية العامّة وتزيد من وتيرة إيقاعها
السرديّ.