تاريخانية مقام السيدة رقية في دمشق

ريبورتاج 2024/08/20
...

  شاكر الغزي

في محلة العمارة الجوانية بدمشق، على مقربة من باب الفراديس في سوق العمارة، وعلى مسافة مئة متر أو أكثر قليلا خلف المسجد الأموي، يقع المقام المنسوب إلى السيدة رقية بنت الحسين. وقد دأب الموالون من شيعة العراق وإيران ولبنان وباكستان ودول الخليج على زيارته للتبرّك وطلب الحوائج؛ إذ ظهرت لهذا المقام كرامات كثيرة وقصص عجيبة تناقلتها ألسنة الناس، ودونتها بضع مصادر متأخرة.


قد يُفاجئ القارئ، أولاً، حين يعرف أنَّ نسبة هذا المقام إلى السيدة رقيّة بنت الحسين نسبةٌ غير صحيحة، وقد تداولها الناس قبل 100 سنة من الآن! مع أنَّ المقام كان معروفاً باسم آخر ــ كما سيأتي ــ إلّا أنَّ عامة الناس تداولوا نسبته إلى السيدة رقية بنت الحسين خطأً، كما نصَّ على ذلك نزيل دمشق السيد محسن الأمين العاملي في كتابه أعيان الشيعة، الذي بدأ في طباعته عام 1935م؛ إذ قال تحت عنوان (رقية بنت الحسين): ينسب إليها قبر ومشهد مزوَّر بمحلة العَمَارة من دمشق، الله أعلم بصحته.

ثُمَّ يُفاجأ ثانياً، بل قد يُصدم حين يعرف أنَّ الكتيبة المثبتة فوق الباب الجنوبي والمكتوب فيها: (هذا مقام السيدة رقية بنت الحسين الشهيد بكربلاء)، والتي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، إنّما ثُبّتت لأول مرّة عام 1985م مع بداية حملة ترميم المقام! وأنَّ المقام لم يفتح أبوابه لاستقبال الزوَّار بوصفه مقام السيدة رقية بنت الحسين إلّا في عام 1990م بعد اكتمال أعمال الترميم والبناء!.

وبحسب الموقع الرسمي لمديرية أوقاف دمشق، فإنَّ مقام السيدة رقية الحالي أُقيم حديثاً وصمّم على طراز العِمَارة الإسلامية المنتشرة في إيران والغنية بالعناصر الزخرفية. 

وبحسب القصّة المتداولة، فيكون بين شهادة السيدة رقيّة في صفر من سنة 61هـ (680م)، وبين نسبة المقام إليها في عام 1985م، فجوة تأريخية مقدارها ألف وثلاثمئة سنة!. أمّا ما بين شهادتها وبين تشييد أول بناءٍ في موضع المقام فأكثر من 450 سنة! لم يكن خلالها المقام شيئاً مذكوراً.

يُظنُّ أنّ تأريخ تأسيس المقام يرجع إلى سنة 526هـ (1131م)، وأوّل من بناه هو أحد السلاطين الأيوبيين، غير أنّ هذا الزعم لا يصحّ، باعتبار أنّ الدولة الأيوبية تأسست في مصر أواخر عام 570هـ حين أعلن صلاح الدين الأيوبي نفسه ملكاً على مصر والشام. وبحسب العلّامة محمد صادق الكرباسيّ فالأيوبيون لم يحكموا بلاد الشام إلا بعد سنة 588هـ.  

ومهما تكن الحال، فالظاهر أنّ ما بُني آنذاك كان مسجداً أو قبّة صغيرة. ثمَّ بعد ذلك (في عام 1260م) عُرف بمسجد الرأس بعد أن دُفن فيه رأس الملك الكامل ناصر الدين الأيّوبيّ، فقد ورد أنه: لما استولى التتر على ميافارقين سنة 658هـ، قطعوا رأس ملكها الكامل وحملوا الرأس على رمح وطافوا به البلاد، فمرّوا على حلب، وحماة، ووصلوا إلى دمشق، ووضعوا الرأس في شبكة وعلّقوها على باب الفراديس، ولما انهزم التتر، دُفن في روضة المسجد، فسُمّي بمشهد الرأس. 

وبحسب المؤرّخ الدكتور محمد أسعد طلس، ففي عام 808هـ (1405م) دُفن فيه الملك  محمد بن جمال الدين في العصر المملوكي.

وقد ذكر ابن طولون في إعلام الورى، أنّ الأمير بردبك الظاهري، المشهور بالأقرع البجمقدار، لمّا ولِيَ دمشق سنة 871هـ، جدّد عمارة مسجد الرأس داخل باب الفراديس. 

ويبدو أنَّ بناء هذا المسجد تهالك واندثر حتَّى تحوَّل إلى خربة تُطرح فيها قمامات الدمشقيين! فقد ذكر محمد بن أبي طالب الكرَكيّ (كان حياً في 955هـ) في كتابه تسلية المجالس، ما يلي: ولقد شاهدتُ في بلدة دمشق الشام شرقيّ مسجدها الأعظم، خربةً ــ كانت فيما تقدّم مسجداً ــ مكتوب على صخرة عتبة بابها أسماء النبي وآله والأئمة الاثني عشر عليهم السلام، وبعدهم: هذا قبر السيدة ملكة بنت الحسين عليه السلام بن أمير المؤمنين... تركوا القيام بعمارة ذلك المقام إلى أن استهدم، ثم جعلوه مطرحاً لقماماتهم، ومرمى لنجاساتهم وقاذوراتهم). 

ويبدو من هذا النصّ أنّ المسجد إنّما أُهمل حتّى استهدم واندثر لأنه حمل فيما بعد ــ لسببٍ نجهله ــ اسم مقام السيدة ملكة بنت الحسين! (واسم ملَكة غريب وغير معتاد في أسماء بنات الأئمة، ولم تذكر المصادر المعتبرة بنتاً للحسين بهذا الاسم)؛ فهزّت الأريحية أحدَ موالي أهل البيت، فأماط القاذورات، وجدد بناء تلك الخربة؛ (لأنها وإن لم تكن مدفناً لأحدٍ من ذريتهم فقد شَرُفت بنسبتها إليهم) ــ كما يقول الكركيّ ــ واتخذها مسجداً مهيأً للصلاة. 

وبحسب غزوان ياغي، مدير آثار دمشق، فقد حمل هذا المسجد اسم السيدة رقيّة لأول مرّة في سنة 1125هـ (1714م) حين جُدِّدَ المقام للمرة الأولى.


وهنا نتساءل: من هي رقيّة التي نُسب إليها المقام في عام 1714م؟

والجواب: 

تشير المصادر التأريخية التي بين أيدينا إلى أنّ صاحبة مرقد الشام هي السيدة رقية بنت الإمام علي عليه السلام، وقد نصّت على ذلك رواية ذكرها الشبلنجي الشافعي في كتابه نور الأبصار، وهي أول رواية أشارت إلى موضوع تعيُّب القبر. 

وكلّ اللوحات التي أقيمت على القبر إلى أواخر القرن الماضي كانت تشير إلى أن المرقد منسوبٌ إلى السيدة رقية بنت الإمام علي عليه السلام؛ إذ كان منقوشاً على لوح حجري إلى جانب المحراب: (قد صار التوفيق لجناب الميرزا بابا المستوفي الكيلاني في عمارة البقعة المشهورة بمقام ستّنا رقية بنت سيدنا علي وموضع رأس الحسين... حرّره الملا أحمد القراجداغي 1125هـ). وظلّ هذا اللوح الحجري إلى ما بعد تجديد المقام عام 1323هـ، الذي أرّخه السيد محسن الأمين. وفي العدد الرابع من مجلة الموسم، أنّ المقام رُمّم في عام 1343هـ، من المال الخاص للسيدين كامل ومحمد علي آل نظام من أهالي دمشق. وقد نشرت المجلة أبياتاً تؤرّخ تجديد المقام، وزيارة مختصرة لصاحبته العلوية الطاهرة، وكلّ ذلك باسم رقية بنت الإمام علي عليه

 السلام.

وفي عام 1350هـ، كانت على ضريح القبر لوحة فيها زيارة السيدة رقية، جاء فيها: (السلام عليك يا بنت أمير المؤمنين، السلام عليك يا بنت سيد الوصيين، السلام عليك يا بنت أول القوم إسلاماً وأقدمهم إيماناً ورحمة الله وبركاته). وقد شاهد العلامة الكرباسي هذه الزيارة في عام 1388هـ (1969م). 

إذن، فالمقام طيلة أكثر من قرنين ونصف ــ منذ 1714م وحتى 1975م ــ نُسب إلى السيدة رقيّة بنت الإمام علي، إلّا أنَّ عامة الناس منذ عام 1935م، وما قبله، أخذوا ينسبون هذا المقام بشكل غير رسميّ إلى السيدة رقية بنت الحسين، وهي نسبة غير صحيحة كما ذكر السيد محسن الأمين. 

ويبدو أنّ أول إشارة رسمية توثّق انتساب هذا المقام إلى السيدة رقية بنت الحسين كانت في أُكتُوبر 1975م، حين أصدر الرئيس السوري حافظ الأسد مرسوماً جمهورياً باستملاك أكثر من عشرين عقاراً من أجل توسيع مقام السيدة رقية بنت الحسين في حي العَمَارة وإقامة منشآت خيرية وثقافية إلى جواره، وقد أورد العلامة الكرباسي نسخة مصوّرة من ذلك المرسوم في الجزء الثامن من كتابه تاريخ المراقد. 

ويمكن معرفة الدوافع وراء إصدار هذا المرسوم من خلال ما نشره موقع السيدة رقية للقرآن الكريم؛ إذ جاء فيه ما نصّه:

قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان بعض المؤمنين يسعون إلى إعادة بناء حرم السيدة رقية سلام الله عليها وقد جمعوا الأموال من أجل ذلك، وكان المرحوم الحاج الشيخ نصر الله الخلخالي قد عمد إلى شراء الأراضي والممتلكات المجاورة للحرم الطاهر، غير أنّ الحكومة السورية لم توافق على هدم ما يُحيط بالحرم للقيام بعمليات التوسعة. وكانت هواجس الدولة السورية ترتكز على الخوف من رميها بالتشيع من قبل المتشدّدين والمتطرفين، فكانت تتذرع بكون المكان جزءا من التراث التاريخي القديم لمدينة دمشق؛ فلا يمكن التصرف فيه، كما تدخّل السيد موسى الصدر لحلّ هذه المشكلة إذ كان مقيماً في لبنان وتربطه علاقات متينة ومتميزة بالرئيس حافظ الأسد، غير أنّ هذه المحاولة كسابقاتها لم يُكتب لها النجاح لنفس السبب. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وفي زمان تسنم آية الله العظمى السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي لديوان الدولة والجهاز القضائي (1981 ــ 1989)، زار سوريا والتقى الرئيس حافظ الأسد، وطلب موافقته على بناء حرم مقام السيدة رقية، فعمد الأسد إلى استقدام وزير الأوقاف السوري، وأمره بالتعاون الكامل مع المسؤولين الإيرانيين في إعادة إعمار وبناء الحرم المطهّر وإصدار كافة التخويلات الضرورية بهذا الخصوص.

وبعد قرابة عشر سنوات، في عام 1405هـ (1985م) ابتدأ وزير الأوقاف السوري محمّد الخطيب حملة بناء المقام الحالي. ثمَّ بعد ذلك، ثُبّتت فوق قوس الباب الجنوبي الرئيسي الذي يُدخَل منه إلى الصحن الأول للمقام الشريف، كتيبةٌ مكتوب فيها: (هذا مقام السيدة رقية بنت الحسين الشهيد بكربلاء)، ولا تزال موجودة إلى يومنا هذا.

بدأ العمل في توسيع المقام وترميمه عام 1985م واكتمل في 1990، وبعدها بأربع سنوات، أي في عام 1994م، نُصب في المقام ضريحٌ ذهبيّ فضيّ، جُلب من أصفهان.

ويبدو ممّا سبق أنّ الشيخ نصر الخلخالي هو الذي كان وراء تحوّل المقام من (مقام ستّنا رقية بنت سيدنا علي) إلى (مقام السيدة رقية بنت الحسين الشهيد بكربلاء)، فهو الذي اشترى العقارات المحيطة بالقبر، وقد أصدرت الحكومة السورية مُحْرجةً، بناءً على وساطات دينية، قرار الاستملاك لصالح المقام؛ ولكنها لم تتجرّأ على المباشرة بالهدم خوفاً من الرمي بالتشيّع. وربّما أنّ بعض مسؤولي الحكومة المعنيين بالآثار والسياحة عارضوا ذلك لكون ما يُهدم من تراث دمشق. 

ويدعم هذا الاستنتاج، ما ذكره السيد عامر الحلو من أنّ لجنة تشكّلت في بداية السبعينيات سُمّيت بلجنة بناء مسجد ومقام السيدة رقية، وكان من أبرز أعضائها الشيخ نصر الله الخلخالي، والسيد موسى الصدر، والحاج أبو القاسم الهمداني، وانضمّ إليهم فيما بعد السيد رضا الوردي؛ وهذه اللجنة هي التي اشترت بعضاً من البيوت المجاورة والمحلات الملاصقة للقبر.

وحين سئل المحقّق جعفر مرتضى العاملي عن السيدة المدفونة قرب مسجد بني أمية بدمشق، هل هي رقية بنت الحسين عليه السلام أم غيرها؟ خلُص رأيه بعد معالجة الموضوع ــ ولعدة اعتبارات بحثية ــ إلى ترجيح أن تكون المدفونة هي رقية بنت الإمام علي، زوجة مسلم بن عقيل، لا رقية بنت الإمام الحسين، عليهم السلام أجمعين. 

غير أنني لا أرجّح ذلك أيضاً؛ فالإمام علي عليه السلام له ابنتان باسم رقيّة، كبرى وصغرى، وكلاهما لم تدفنا في الشام، هذا أولاً، وثانياً، فرقية المدفونة في الشام ــ بحسب رواية الشبلنجي في نور الأبصار ــ طفلة صغيرة دون البلوغ، على أنّ ما بين شهادة الإمام علي عليه السلام في الكوفة سنة 41هـ، وما بين دخول السبايا إلى الشام سنة 61هـ هجرية قرابة عشرين سنة؛ فلا يمكن أن تكون الطفلة المدفونة ــ على ذلك ــ ابنةً لأمير المؤمنين.  

وإذا ما سلّمنا بصحة الرواية التي ذكرها الشبلنجي في كتابه نور الأبصار، وقلنا بوجود قبر تعيَّب في دمشق، والقبر لطفلة صغيرة دون البلوغ اسمها رقية، فلا أقلّ من الإقرار بكونها سيدة صالحة من نسل آل محمد، أو من صلحاء الناس، أو ربما تكون من بنات الملوك! كحال سكينة المنسوب إليها مقام السيدة سكينة بنت الإمام الحسين، أو طفلة لإحدى نساء سبايا كربلاء توفيت خلال إقامتهن في الشام، أو غير ذلك، وكلّها احتمالات واردة ما عدا احتمالين: أن تكون ابنةً للإمام علي، أو ابنةً للإمام الحسين عليهما 

السلام.  

وليس للباحث إلا أن يعجب من شأن صاحبة القبر، وما استحقّت به عند الله أن يكون لها هذا المقام الشامخ والقَدْر العالي!.