كيف نحبّبُ أطفالَنا بعوالم المعرفة والوعي؟
صفاء ذياب
في كاريكاتير نُشر قبل مدّة تظهر فيه سيدتان الأولى تقرأ كتاباً والثانية تمسك بموبايل، وبالقرب من كلِّ سيّدة طفلها الذي يقلّدها في كلِّ شيء، فمن تقرأ نجد أن طفلها يقرأ أيضاً والآخر يمسك بموبايل.
من الواضح أنَّ هذا الكاريكاتير يكشف عن حقيقة واضحة في إحدى طرائق تعليم، وهو التقليد، الذي يعدُّ من أفضل طرائق التعلم للأطفال، إذ نلاحظ أنَّ الطفل يركّز على الوالدين ويحاول تقليد الحركات أو الأصوات التي تصدر منهم لإشباع رغبته وللتعرّف على البيئة التي يعيش فيها من خلال التقليد.
ويؤكّد الباحثون النفسيون أنَّ الطفل يعتقد أنَّه عندما يقلّد فهو يحاول الحصول على المتعة والتسلية، وهذا ما لا يمكن نفيه، ولكن في أثناء تقليده هذا فهو يشبع فضوله ويجرّب ما يلفت انتباهه ويختبر العديد من المواقف والسلوكيات التي يلاحظها على الكبار أو في التلفزيون أو من بعض الأقران، ومن هنا يظهر لنا كيف يؤثّر التقليد، بل ويساهم في بناء شخصية الطفل ويكسبه العديد من الخبرات، فبالتقليد يتعلّم الطفل- مثلاً حسب بعض الدراسات- فإنَّ الطفل يتعلّم الدور الجنسي وكيف يميّز نفسه كذكر أو أنثى عن طريق التقليد، ويحدث هذا عندما تقلدك طفلتك وتجد معك نقاطاً مشتركة عديدة، أو عندما ترى أيّها الأب أنَّ طفلك الذكر يحاول محاكاة تصرّفاتك وشخصيتك ليبدو كنسخة مصغرة عنك.
في حين يتمُّ تنمية وتطوير المهارات المعرفية عند الأطفال ببناء تدريجي لمهارات التعلّم مثل الانتباه وتنشيط الذاكرة والتفكير، وهذه المهارات هي المسؤولة عن معالجة المعلومات الحسّية ليتعلّم الطفل التقييم والتحليل والتذمّر وعمل مقارنات وتحليل الأسباب والنتائج، وأيضاً لا بدَّ من ذكر أنَّ تنمية المهارات المعرفية عن الأطفال مرتبطة بالتركيب الجيني.
وهناك من يرى أنَّ المحاكاة سلاح ذو حدّين للأطفال، فمن الناحية الإيجابية يمكننا عدّها أسلوباً تعليمياً، يكتسب الطفل من خلالها الكثير من المهارات والخبرات، ومن ناحية أخرى فهي خطيرة وغير مريحة عندما يحاكي الطفل السلوكيات الخاطئة. تجدر الإشارة إلى أنَّ للوالدين دوراً كبيراً في توجيه أطفالهم لاستخدام هذه السلوكيات والاستفادة منها في تعليمهم، واستغلالها بشكل أفضل.
وهناك من يرى أنَّ الأطفال لا يتعلّمون بالشكل الصحيح إلا في حال تقليدهم للآخرين، فهل يصح هذا القول على مجتمعاتنا؟ وكيف يمكن أن نربّي أطفالنا على القراءة والاهتمام بالوعي؟
لعبة التوازن
يشير الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح؛ مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية، أنَّ علينا أن نؤمن بحقيقتين، الأولى أنَّ الثورة التكنولوجية غيّرت في أساليب القراءة، ولا أحد يستطيع أن يقف بوجهها. والثانية أن قيم الجيل الجديد وتقاليده تختلف عن قيم وتقاليد جيل آبائهم. والمشكلة، أنَّ كليهما يمارسان الآن لعبة (جر الحبل)، والخطر فيها أنَّهما إذا مارسا العناد، فإنَّ جيل الكبار سيخسر.. والكل يراقب الموقف بين من يتفرّج وبين من لا يريد أن يخسر أحداً، والكل يبحث عن حلٍّ.. والحل عند علماء النفس والاجتماع يكون في لعبة (التوازن).
ويضيف صالح: على الآباء أن يقتنعوا بأنَّ مصدراً ثالثاً قد دخل على تربية الأطفال، وصاروا الآن ثلاثة: الوالدان والمعلّم وثالث دخل العراق العام 2000، الأنترنت.. التي تنفرد بأنَّ لها إيجابيات وسلبيات.. وأنَّ على الوالدين إرشاد أطفالهم على إيجابيات النت وتوعيتهم بالابتعاد عن سلبيّاتها المتمثّلة بأضرارها الصحّية والعقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية، وضررها البالغ في العزوف عن القراءة والكتابة أيضاً. وأن يدرك الآباء أنَّ القراءة الورقية ما عادت مصدراً للمعرفة عند الجيل الجديد، وأنه سيأتي يوم تختفي فيه السبّورة والطباشير والقلم من المدارس، ويحلُّ محلّها بدائل إلكترونية.
وينصح الدكتور قاسم حسين صالح الآباء بالاهتمام بالبرامج التي تعرض على مواقع الإنترنت، لاسيّما تلك التي تشجّع على القراءة وتلك التي تثير الفضول المعرفي، وتوعية الآباء بمشاركة أبنائهم في نشاطهم على مواقع النت وتنظيم أوقات مشاهدتهم، وعدم إعطائهم الهاتف والآيباد وتملّكهم له وحده، لأنَّه يشجّعهم على العزلة وعدم التفاعل مع الآخرين ويوفّر لهم الفرصة لمشاهدة ما يعرض على النت من دون رقيب.
صفحة بيضاء
وبحسب الكاتب والطبيب النفسي الدكتور حميد يونس فقد أتاحت السنوات الأخيرة من علم النفس فهماً لعقول الأطفال أكثر من أيِّ وقت مضى؛ إذ يتبيّن أنَّ الرضَّع والأطفال والصبية يعرفون ويتعلّمون أكثر ممَّا كنَّا نظنّه ممكناً في يومٍ من الأيام. وببلوغهم الثالثة والرابعة من العمر يكونون قد تعلّموا الحقائق الأساسية كلّها عن كيفية رؤية العالم. لا بدّ لنا من نظرية تعلّم جديدة تتيح لنا فهم كيف يستطيع الصغار العاجزون عن القراءة أو الكتابة أو حتَّى الكلام جيّداً أن يتعلّموا هذا القدر الكبير وبهذه السرعة المهولة.
لكنَّنا على الرغم من تبنّينا إلى نظريات النمو الإدراكي Cognitive Development وفهمها، بيد أنَّنا عجزنا عن تحليل من أين تأتي تلك المعرفة؟ وكيف يمكن أن ترسم لنا صورة كاملة عن العالم؟ لقد تمَّ ترحيل موضوع التعلّم إلى “الفصول غير المحلولة”، جنباً إلى جنب مع أصل المشاعر، والوعي، والإرادة.
موضحاً أنَّ علم النفس احتاج إلى عشرة عقود ليدرك أنَّ الأطفال الذين يولدون صفحة بيضاء Tabula rasa يستطيعون بدون أبوين أن يفهموا الأدوات كلّها، والمصطلحات، ويكونون قادرين على حلّ المشكلات، وفكّ الطلاسم. لكنَّ طرائق التربية النفسية الحديثة باءت بالفشل؛ إذ لم يستطع أن يوحّد نظرياته في كيفية خلق نموذج للإنسان الذكي والعامل والصالح، ولربَّما ما زالت البيئة والمحيط والمناخ والظروف الطبيعية وغير الطبيعية تشترك مع الأبوين في تربيتهما، هذا بغضِّ النظر عن التربية الوراثية والغرائزية المخزّنة سلفاً في العقل البشري.
“قد أكون قد اندفعت علمياً في المقالة على نحوٍ كبير، لكنّني أريد في النهاية أن أتبنَّى ما أجاب به الروائي الأرجنتيني إيرنست ساباتو Ernesto Sabato حين سُئل ذات السؤال، وبالتأكيد وافقني على أنَّ تبنّي التربية الحديثة لا تخلق شخصيات واعية، لأنَّ الطفل يتمنى من أبويه أن يكونوا صديقينِ يساعدانه وينصتان إلى مشكلاته في مرحلة من حياته، لكنَّه يحتاج إلى “رمز” يقتاد به، إلى نموذج ثابت للأب والأم ليرسم حولهما مفهوم الأبوّة والأمومة والسلام”.
ممارسة اجتماعية
ويرى الدكتور عدي شبيب؛ الأستاذ في قسم علم الاجتماع بجامعة ذي قار، أن الأطفال- في التقليد الاجتماعي- يمارسون لعبتهم المحبّبة في تقمّص الشخصية، الدور، النموذج المثالي، وحتَّى في الحركات.
كان تارد؛ أحد علماء النفس، في نظريته المشهورة في التقليد والمحاكات التي تمارس من قبل أفراد المجتمع، ومنهم الأطفال في مختلف نواحي الحياة. الذي يهمنا هنا كيف أثّرت عملية التقليد على سلوكيات الأطفال بخلق نوع معيّن من الوعي سواء القراءة أو غيرها.
ويبيّن شبيب أنَّ التقليد يكون بدافع نشر النشاط من قمّة الهرم لتكون ممارسة تتماهى فيها السلطة مع المجتمع لتوحيد الجهود برسم وعي سواء كان آيديولوجياً أو غيره بحسب توجّه السلطة، والأمر الآخر هو فعل اجتماعي بالرغبة للمعرفة والتطلّع إلى معرفة ما يجري في المجتمع، سواء الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يرغب الفرد بالاطلاع عليها، ومن ثمَّ يكون القارئ منجذباً إلى نوع معيّن من القراءة أو الممارسة اليومية التي تلبّي توجّهه الفكري وتسدُّ تعطّشه للمعرفة.
وبهذا تعدُّ القراءة مفصلاً أساسيّاً في نشر الوعي عن طريق التقليد أو الممارسة الاجتماعية أو تبنّي نظرة من قبل السلطة حول نوعية الوعي تستلزم القراءة المستمرّة، وهي القول الفصل بالوعي بوصفه ممارسة اجتماعية وثقافية.
مجتمع التقاليد
ويختتم الكاتب؛ ورئيس أبحاث في وزارة العدل العراقية، نشوان محمد حسن، حديثنا في أنَّ التقليد والمحاكاة هي صفة أو خاصية بشرية طبيعية جدّاً، ولا سيّما بالنسبة للأطفال، وأوّل من تكلم عن هذا رائد علم النفس الاجتماعي، الفرنسي (غابرييل تارد) في نظريته الموسومة (التقليد والمحاكاة)..
مضيفاً أنَّ التقليد بحدِّ ذاته يعدُّ نوعاً من التعلّم، ولكنَّه بالنسبة للطفل هو تعلّم يكاد يكون خالياً من المعرفة، لذا فإنَّ الطفل ولا سيّما في المراحل المبكّرة، يحتاج إلى وسيط ليحوّل التقليد إلى تعلّم.. بلغة أخرى يرفع من قدرته الإدراكية ويحقّق له أكبر قدر من الاندماج في الوسط البيئي.. ولكن هل هذا يعني أنَّ الطفل لا يتعلّم من تلقاء نفسه؟ الحواب بالطبع يتعلّم، ولكنَّ هذا يعتمد على خصائص ذاتية وخصائص موضوعية، وبالنسبة للذاتية ترتبط بعمر الطفل وبمستوى ذكائه، فالطفل في السنتين الأوليتين يكون إدراكه (حسّياً) وبدرجة أساس معتمد على مواجهة غريزة الجوع وغريزة الخوف، أمَّا بالنسبة للعوامل الموضوعية فهذا يتعلّق بالوسط البيئي الذي ينشأ فيه الطفل، ولا سيّما العائلة، ويبرز دور العائلة في التعليم بعد السنتين، حيث تبدأ عملية تعليم على خطّين.. طريقة مباشرة، وطريقة غير مباشرة، الأولى هي ما يلتقط وعي الطفل من سلوكيات وتصرّفات تجري أمامه أو تمسّ مسامعه، وهذه غالباً ما يعكسها الطفل بطريقة السلوك التقليدي لا سيّما مع تجاوزه للمرحلة المبكّرة. أمَّا الطريقة المباشرة فهي ما يتقصّد الوالدان أو غيرهما أن يعلّماه للطفل، لا سيّما حين يصل إلى ما يسمّى بـ(المرحلة التشغيلية الملموسة) التي تنحصر بين 6 - 10 سنوات.
ويؤكّد حسن أنَّه في مجتمعنا العراقي وعموم المجتمع العربي، ما زلنا وللأسف نفتقر إلى الكثير من وسائل وطرائق التنشئة الاجتماعية الصحيحة للأطفال، وتحديداً في قساوة تعاملنا معهم، مع ضعف معرفتنا نحن الكبار بشخصية الطفل والتهاون فيما يمكن أن يترسّخ في نفسية الطفل، إذ إنَّنا دائماً ما نردّد عبارة (جاهل ما يفتهم) في حين أنَّ للطفل وعياً إدراكياً خاصاً به، فضلاً عن لا وعي يخزن كلّ ما يمر به بحسب نظرية التحليل النفسي التي جاء بها العالم سيغموند فرويد، لذلك فنحن غالباً ما نترك طفلنا للتقليد، بل ونطلب منه أن يكون نسخة من عندنا نحن الكبار، والأسوأ من هذا كلّه أن نحاول إقحام بعض التعليمات والسلوكية بما لا يتناسب وبساطة تفكيره أو ما يتعارض ويفسد براءته.
أمّا كيف يمكن أن نربّي أطفالنا على الاهتمام بالقراءة وحب المعرفة، فيوضّح؛ حسن أنّنا مجتمع العادات والتقاليد، وبالتالي لسنا مجتمع الخلق والإبداع الذي غالباً ما يحتاج إلى ثورة ثقافية اجتماعية. لذا فإنَّ مسألة تربية أطفالنا على حبِّ القراءة والاهتمام بالوعي لا يمكن أن تتحقق لمجرّد وجود الرغبة لدينا نحنا الكبار، فالتحديات كبيرة في ظلِّ مجتمع ونظام سياسي يحارب الوعي أو لنقل يكرّس لثقافة تحارب الوعي، مع توجّه عالمي يضع المال والنفوذ كمحدّدات لقيمة الإنسان وموقعه في السلّم الاجتماعي. وبالتالي فنحن نحتاج إلى جهد كبير لنحبّب الأجيال القادمة بقراءة الكتب غير الدراسية، أو لنجعل الوعي هو أولويات اهتمامهم!