المتخيّل الديني والسرد غير الواقعي

ثقافة 2024/08/21
...

د. نادية هناوي

ذهب نورثروب فراي في نظريّته عن (الاسم) إلى أنَّ النمط هو الشكل، واستبعد الفعل بوصفه مضمونًا. ولعلَّ الذي أوحى إليه بذلك هو نحوية الجملة باللغة الإنجليزية فهي تبدأ بالاسم تركيزًا على شكل الشيء، لكنَّ اللغات السامية- ومنها العربية التي هي امتداد للغات قديمة كاللغة الأكدية- تبدأ فيها الجملة بالفعل تركيزًا على أحوال القائل وما يؤديه خلال نطقه الجملة من فعل حركي. ولهذا الأمر علاقة بالوازع الديني الذي يجعل المتكلم يمثل الكلمات التي يريد قولها تمثيلًا دراميا.
إنَّ هذا التشديد على تقسيم التخييل على أنماط وتأكيد دور الاسم/ الكلمة في صناعة التخييل، هو ما عليه بنى سعيد الغانمي آراءه في كثير من تحليلاته للخرافات والأساطير ففي كتابه (أسطورة الخليقة البابلية اينوماليش) أكد أننا (حين نفكر بالكلمات، فإنَّ الاستعارة وحدها تستطيع أن تعبر في اللغة عن معنى طاقة تشترك بها الذات والموضوع، ويكمن مركز تعبير الاستعارة في فكرة الإله الكائن الذي يماهي إله السماء أو إله الحرب) أما في كتابه (فاعلية الخيال الأدبي) فاستلهم طروحات كاسيرر وريكور ونورثروب فراي ودريدا بشأن المعرفة والأسطورة والعلم الوصفي، وبيّن أنَّ (الأدب أو الخيال الأدبي.. مرَّ بأطوار ثلاثة هي على التوالي: الخيال الأسطوري القديم والخيال اليوتوبي في عصر الفلسفة والعقل ثم الخيال العلمي بعد سيادة اللغة العلمية الوصفية في العصر الحديث)، متوصِّلًا إلى أنَّ الفاعلية التخييلية تتوقف على (ثقافة مبدأ الاسم) التي أساسها المحاكاة. وبسبب هذا التركيز على الكلمة/ الاسم، يغدو (تحقق الكلمة هو المعيار الأول. وحضور الكلمة حضور عيني ملموس، يقود الواقع ويغيره. ولذلك فكل أدب هو تاريخ في الوقت نفسه، ما دام متحققًا بحضور الكلمة. وكلّ تاريخ هو أدب ما دام يزخر بالصياغة الاستعارية التي توجهها الكلمة).
وطبّق سعيد الغانمي مبدأ الاسم على المتخيّل الديني في أسطورة رافدينية تتحدث عن موت الملك الذي تزف له ملكة عذراء (بتولتو) وعدَّ ذلك ثقافة قولية فيها طقس الملك البديل مغلق، لأنه يبدأ بقوة الكلمة وينتهي بها على أساس أنَّ جوهر الفاعلية يكمن في الاسم الذي فيه تتحقق فكرة التماهي أو التطابق بين الدال والمدلول. ولكن كيف يكون الطقس اسمًا تتطابق فيه الدوال والمدلولات وهو يتكون من مجموعة حركات ذات بعد روحي مفتوح على التأويل الكهنوتي؟
لا شك في أنَّ العقل العراقي القديم مارس التخييل كطقس ديني هو عبارة عن أفعال وأقوال تمارس في سياق درامي. وكلما تكرر أداء هذا الطقس ترسَّخت عادات دينية معينة. وأسهم هذا الترسخ في أن يتقيّد التخيّل بالواقع أكثر. إذ لم يعد العقل وحده هو موئل التخييل، بل هناك الذاكرة التي تشترك في صنعه وفيها تختزن العادات ومنها تتشكل الثقافة.
وبمرور الزمان تشذب المتخيل الديني من كونه فعلًا عقليًا محضًا إلى أنَّ يكون فعلًا سردياً توجهه الذاكرة بما تختزنه من عادات اجتماعية وطقوس دينية تستمد تعاليمها من مصادر مقدسة. ومن ثم صار هذا كله بمثابة المصدر الذي منه يأخذ السرد أشكاله وموضوعاته. وكان للقص القرآني أثره المهم في توجيه المتخيل السردي العربي وجهة أخلاقية وفكرية تمثلت أكثر ما تمثلت في نوعين من السرد: الأول هو سرد التصوف، وفيه يبني السارد صورًا، بها يؤكد منظوره لكرامات عرفانية اتصف بها أناس معينون وغايته أن يجعل المتلقين مؤمنين بها. والثاني هو السرد الفلسفي ويتمثل في ما كتبه الفلاسفة المسلمون من قصص فيها التأمل الفكري يمتزج بالسرد التخييلي. ومن ذلك قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل (ت 1185 م) واستلهم خياليتها من القص القرآني وبخاصة قصة النبي موسى. وكان ابن سينا قد ألّف قبله قصة بالعنوان نفسه، واستلهم فيها قصة العبد الصالح الخضر وتدور أحداثها حول شيخ بهي الطلعة اسمه حي بن يقظان أراد السارد مساءلته عن كنه أحواله وصناعته من أجل أخذ مفاتح العلوم منه. أما السهروردي فأفاد من قصة الهدهد مع النبي سليمان في كتابة قصة بطلها (حي بن يقظان). وأفاد نور الدين عبد الرحمن الجامي من المتخيّل السردي لحي بن يقظان، فكتب قصة (سلامان وابسال) وهي قصة إطارية تتضمن مجموعة حكايات، بطلها سلامان وابسال. والغاية الوعظ والإرشاد، واتبع فيها تقاليد السرد القديم كالقطع والوصل والتكرار والتأطير. وتبدأ القصة الإطارية باسترجاع زمن سابق على زمن القص (كان في بلاد اليونان ملك كالإسكندر صاحب التاج والخاتم وأراد له ولدًا وأحضر له مرضعة هي ابسال ووقعت في عشق سلامان) وتقطع القصة الإطارية حكايات ضمنية كحكاية يوسف وزليخا والغراب الأعمى والبدوي ثم يعود إلى الحكاية الأصل (ولكن الدهر المتقلب كان يخاطبهما من وراء الغيب قائلًا: ليس من دأبي أن أترك الأمور هكذا فما أكثر ما وصلت من الصداقة نهارًا ثم قطعتها ليلًا. وما أكثر ما منحت من السعادة ليلًا ثم لم أتركها لتشهد نور الصباح) ويغلب الخط الواقعي على القصة الإطارية متمحورًا حول صراع الشهوة/ الروح. فحين يعرف الملك بأمر حب سلامان لابسال، يلومه قائلا: (لقد أدميت قلبي كالشقائق.. لا تسلم قلبك لامرأة ذات جمال ..فلتذهب ولتضرب بالسيف في صفوف الرجال).
ويقطع السرد بحكاية خسرو وشيرويه (ما أسوأ ذلك الغصن الذي ارتوى الماء من جذره ورفع رأسه من الماء معاديا هذا الجذر. لما اجتث الجذر وأصبح الجو خاليا له سقط ذلك الفرع على الأرض يابسا غير ذي ثمر) وتنفرج الحبكة حين يأمر الملك بمرآة سحرية تكشف عن مكان اختباء سلامان وابسال، وتفصح عن أسرار الدنيا بأسرها، وفي مقدمتها أنَّ في الدين السعادة، فيتأكد من ثم الدرس الأخلاقي من وراء السرد غير الواقعي.