علي المرهج
يصح أن نؤرخ لتاريخ الفلسفة بالقول: الفلسفة مع فوكو وما قبله وما بعد، كما يصح ذلك على كبار الفلسفة مثل سقراط وإفلاطون وكانت وهيجل وماركس، ويمكن لنا أن نقول: إن فلسفة فوكو بنزعتها الأبستيمولوجية والنقدية، إنما جاءت لنقد بعض هذه الفلسفات التأملية مثل فلسفة سقراط وإفلاطون وأرسطو على ما بينهم من تباين، وأيقظت أو أعادت لفلسفة نيتشة وماركس حضورهما في نقد فلسفة الحداثة وما قبلها.
كان جل هم فلسفتي نيتشة وماركس هو نقد السلطة، لأن تمظهرات المعرفة في الفلسفة ما قبل، إنما هي تمظهرات فيها تعبير عن حضور للسلطة، وممارستها في جعل الخطاب الفلسفي رهين إرادتها.
تمذهبت الفلسفة في عصر الحداثة، فصارت شبيه بألأيديولوجيا إن لم تتطابق معها، لذلك تمكن فوكو من كشف تمظهرات السلطة، حتى في الجوانب، التي لا تدعي أنها طرف في تشكيلها ووجودها.
ينتقد فوكو (ستراتيجيات السلطة) غبر توظيفه للـ «الأركيولوجيا» لتكون بديلًا عن «الشك الديكارتي»، الذي أنت لنا فلسفة «توتاليتارية» شمولية، همها التماهي مع السلطة في الخضوع لليقين الذي تحكمه «الميتافيزيقا».
تلتقي «الأركيولوجيا» الفوكوية مع «الجينولوجيا» النيتشوية، في التأكيد على إنفصال الذات عن الموضوع، ليُثبت لنا أن «البنية» الغائرة أو المُضمرة، التي تكشف عنها «الأركيولوجيا» هي التي تكشف لنا عن علاقات التماهي بين المعرفة والسلطة.
قد يتبادر للذهن أن فوكو يتحدث عن «السلطة السياسية»، وهذا من الأخطاء الشائعة في قراءة فلسفة فوكو، لأن مفهوم السلطة عند فوكو أوسع من أن نُقصره بمفهوم «السلطة السياسية».
التقاليد والموروث يُشكل سلطة اجتماعية، والسائد في تذوق الأدب والفن يُشكل سلطة، الحس الجمعي (المشترك) سلطة، النظام الأبوي المهيمن في المجتمعات الشرقية سلطة، التعليم والتربية والصحة في المؤسسات المسؤولة عن تنظيمهما، والحال هو الحل في المؤسسات الدينية والكنسية، إنما هو تمظهر للسلطة، وتمظهرات السلطة هذه عبارة عن أشكال تتبادل الأدوار في «الاقصاء» و «التهميش» و «السيطرة».
ما يشغل فوكو هو «اللامفكر فيه» الذي تعمل جل المؤسسات الموجودة في مجتمعاتنا على استبعاده وتهميشه، وتصدير خطاب السلطة، لذلك نجد فوكو في جل فلسفته يسعى للكشف عن زيف خطاب السلطة من خلال الكشف عن ألياتها وممارساتها القمعية في اقصاء الخطاب المخالف، لأنها تمتلك القوة والسطوة واحتكار الحق الفردي في ممارسة العنف.
ميزة فوكو أنه تمكن من فهم طبيعة العلاقات القائمة بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، فكشف لنا عن تماهي المعرفة مع السلطة في جل مفاصل الحياة، بمعنى أن السلطة هي التي تُشكل المعرفة بالذات أو الهوية.
مهمة المؤسسات هي «المراقبة والمعاقبة» و»سياسة إنتاج الحقيقة»، الذي تمارسه السلطة، وسعي فوكو للفكاك منه، ومحاولة «التملص» من «أن نكون محكومين»!.
يُعيد لنا فوكو إنتاج فلسفة نيتشة ويتبنى موقفه في نقد الكر الديني، الذي صار رهين الأخلاق المسيحية التي تدفع الإنسان باتجاه الخنوع والطاعة العمياء.
مثلما كان لفلسفة نيتشه وماركس حظهما في التأثير على فلسفة فوكو، فبالتأكيد كان حظ فلسفة (كانت) هو الأجلى، لا سيما في مقاله «ما التنوير» الذي أعاد للإنسان هيبته تجاه هيمنة الميتافيزيقا، بعد أن دافع (كانت) عن ضرورة «تخليص العقل من سباته الدوغمائس» والدفاع عن «حرية التفكير»، بعيدًا عن أي وصاية عقلية أو دينية.
على الرغم من نقد فوكو لعصر الحداثة والتنوير إلا أن موقفه جاء متناغمًا مع موقف كانت في دعوته لضرورة تجاوز الفرد حالة عدم النُضج والعمل على تحرير عقله، والخروج من قصوره الذاتي، ليعيش في «سن الرشد»، أي قدرته على إتخاذ قرار من جراء عدم استخدامه لعقله.
تبنى فوكو نزعة كانت النقدية، ولكنه تبني بحذر من عقل الحداثة التنويري وسلطته الشمولية في رسم الحقيقة النهائية.
على الرغم من أن فوكو يُسائل نص (كانت) (ما التنوير)، ويعرف أن أجوبة (كانت) هي أجوبة رهينة زمنها، لأنها في المجمل تُحمل الإنسان الذي سلبت السلطة إرادته أن تكون «لديه الشجاعة والجرأة للمعرفة»، وهذه المطالبة تنطوي على نوع من المغالطة، لأن من تسلبه السلطة القدرة على التفكير، من الصعب عليه التحلي بشجاعة التفكير بحرية!.
الإنسان، أي إنسان مرتبط بمحيط يعيش فيه، ومؤسسات يعمل بها، لذلك تكون مطالبة الإنسان بأن يكون حُرًا في اتخاذ قراره في ظل نظام الحداثة الشمولي أمر صعب تخققه.
من تعلم على الطاعة، يصعب عليه فهم معنى الحرية.
ما يلتفت إليه فوكو هو التمييز بين عصر التنوير والنزعة الإنسانية، لذلك هو يرفض الجمع بينهما، لأن عصر الأنوار رغم تبنيه لنزعة الأنسنة إلا أنه في مجمل ما قدمه كان يحمل في طياته نزعة مناهضة للأنسنة، لأن الأنسنة ليست نزوعًا عقلانيًا محضًا.
ينتقد فوكو مزعة التنوير الشمولية، ويأخذ من (كانت) نزعته النقدية، خارج هيمنة (الميتافيزيقا)، لأن فكر الأنوار «لم يجعل منا أسيادًا» بتعبير فوكو.