عاقبة الظلم مصائر قتلة الحسين (عليه السلام)

ريبورتاج 2024/08/22
...

 عبد الرضا الجاسم


﴿وَسَيَعلَمُ ٱلذِينَ ظَلَموٓاْ أَيَّ منقَلَب يَنقَلِبُونَ﴾ . الظلم هو وضع الشيء في غير مكانه، والحياد عن الحق باتجاه الباطل، والتعدي على الحقوق، والجَور فيها، والانحراف عن العدل. والظلمُ من الأخلاق الذميمة، وقد نهَت عنه جميع الديانات السماوية؛ لما ينتج عنه من أحقادٍ وضغائن وأذىً شديد على المظلوم؛ فالإنسان السوي لا يقبل الظلم، ولا يظلم أحداً؛ لأنه يعلم جيّداً عواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة.


النهي عن الظلم في القرآن

الآيات الواردة في ذمّ الظلم والظالمين كثيرة ومتنوّعة، منها:

﴿أَلَا لَعنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ ، ﴿وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِير﴾ ، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ .عن أمير المؤمنين (ع): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ». لقد عبَّر أمير المؤمنين (ع) بأوجز عبارة عن حقيقةٍ قرآنيّة، وهي أنّ الإنسان في هذه الدنيا عامل، وثمرة عمله تظهر في الآخرة.

فما يفعله الإنسان -حَسَناً كان أو سيّئاً- كان زاده الّذي يرافقه في الآخرة، وإن أسوأَ ما يمكن أن يحمله الإنسان وينقله من الدنيا الفانية إلى الحياة الأبديّة الباقية ليكون مُخَّلداً معه هو الظلم، وأشدُّه ظلم العباد؛ وهو من الظلم الّذي لا يُترك، كما ورد عنه (ع): «ألا وإنّ الظلم ثلاثة: فظلمٌ لا يُغفر، وظلمٌ لا يُترك وظلمٌ مغفور... وأما الظلم الّذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً» .

وإذا استقصينا مسيرة البشريّة، لا نجد ظلماً أعظم من الظلم الّذي وقع على الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء يوم العاشر من المحرّم سنة 61هـ. ففي ذلك اليوم وقعت أعظم الجرائم وأقبحها، ولم تُترَك وحشيّةٌ إلّا واقتُرِفَت؛ من قتلٍ وتقطيع أوصالٍ، وسبيٍّ، وتعرّضٍ للنساء والأطفال بالقتل، وبما هو أفظع أحياناً من القتل.والظلم الّذي تعرّض له الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه مصداقٌ للحديث المرويّ عن جدّه (ص): «يقول الله عزّ وجلّ: اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ نَاصِراً غَيْرِي». لقد كان الإمام الحسين (ع) وركْبُه -في تلك الواقعة، وفي تلك البقعة- بلا ناصر ولا معين أمام الحشد الهائل لجند الظالم. وقد أظهر الإمام الحسين (ع) ذلك باستدعائه الناصر، بقوله: «أَفَلَا نَاصِرٌ يَنْصُرُنِي‏».

أسباب الظلم

إنّ للظلم أسباباً كثيرة، نذكر منها:

1. الكفر: إنّ الكفر بنعم الله سبحانه، وجحودها، من أبرز أسباب الظلم، وقد أكّد ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَٱلكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ .

2. اتّباع الهوى واتّباع الظن: الظلم ليس وليد نفسه، بل له منابع وأسباب، ومن هذه الأسباب: تسلُّط الأهواء والغرائز على الظالمين حُكّاماً أو محكومين، قال تعالى: ﴿بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهوَآءَهُم بِغَيرِ عِلم﴾ .

3. الاستكبار والتَرَف: مِن الناس مَن يُنعم الله سبحانه عليه بالنعم الكثيرة، ولكنّه لا يُدرك قدرها، فيستخدمها في غير ما خُلِقَت له، قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَيَطغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱستَغنَىٰٓ﴾ .ومعنى ذلك: إنّ أمر هذا الإنسان عجيب، فإنّه متى أحسَّ مِن نفسه قدرة وثروة خرج من الحدّ الّذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربّه، وتطاول بأذى الناس، وعدّ نفسه فوقهم جميعاً، وقد كان من حقّه أن يكون وإيّاهم أعضاء أسرة واحدة، يتعاونون في السرّاء والضرّاء، ويحبّ الخير لهم كما يحبّه لنفسه.ومن الأمثلة الّتي ساقها القرآن الكريم عن أولئك الّذين طغوا بسبب النعم: قصّة النمرود بن كنعان، الّذي أعطاه الله المُلك ثمّ بعد ذلك ادّعى الربوبيّة، قال تعالى: ﴿أَلَم تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبرَٰهِ‍مَ فِي رَبِّهٓ أَنءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلُلكَ إِذ قَالَ إِبرَٰهِمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَاأُحي وَأُمِيتُ قَالَ إِبرَٰهمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأتِي بِٱلشَّمسِ مِنَ ٱلمَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ ٱلمَغرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾.

4. اتّباع الشهوات: إنّ حُرُمات الله سبحانه هي ارتكاب ما حرّمه الله سبحانه، ونهى عن التعدّي عليه؛ من حقوق الخالق وحقوق المخلوقين؛ من أشخاص وأزمان وأمكنة. وقد حذّرنا الله سبحانه في أكثر من آية من انتهاك حرماته والتعدّي عليها، وجعل ذلك من أكبر الكبائر، عادّاً كلّ مَن ينتهكها ظالماً، قال تعالى: ﴿ تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾.


عاقبة الظلم في الدنيا

لا يقتصر عقاب الظلم والظالمين في الآخرة، بل ثمّة عواقب وآثار كثيرة لهم في الدنيا، نذكر منها: 

1. ظلم الناس بعضهم بعضاً: من جملة القوانين الّتي سنَّها الله تعالى في هذا العالم، هو انعكاس الأعمال ورجوعها على صاحبها، فكلّ إنسانٍ لا بدّ من أن يرى نتيجة أعماله، فمَن زرع خيراً حصد خيراً، ومَن زرع شرّاً حصد شراً، فمَن قتل فليتهيّأ للقتل، ومَن ظلم فليستعدّ للظلم، ومَن يعتدي على أعراض الناس فليتوقّع اعتداء الآخرين على عرضه؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلمَكرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِ﴾ ، وكلمة حاق: بمعنى نزل، والمعنى لا ينزل المَكر السيئ إلّا بمَن فعله.وكانت كربلاء حافلةً بهذه القضيّة؛ فإنّ قصّة أولاد مسلم بن عقيل مع الحارث خير شاهدٍ على هذه الحقيقة؛ حيث إنّ الحارث لمّا قتل طفلَي مسلم، وأتى برأسَيهما إلى ابن زياد، جعل ابن زياد يسأله عن سبب قتلهما وكيفيّته، إلى أنْ قال له: فأيّ شيءٍ قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفيهما إلى السماء، وقالا: يا حيّ يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أُحكم بيننا وبينه بالحقّ. قال عبيد الله بن زياد: فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، مَن للفاسق؟ قال: فانتدب له رجلٌ من أهل الشام، فقال: أنا له. قال: فانطلق به إلى الموضع الّذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تترك أنْ يختلط دمه بدمهما، وعجّل برأسه. ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة، وهم يقولون: هذا قاتل ذرّيّة رسول الله (ص)».

2. الحرمان من الهداية والفلاح واستحقاق اللعنة: بيّن القرآن أنّ الظالمين لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتخلّف سُنّة الله عنهم، قال تعالى: ﴿َكيفَ يَهدِي ٱللَّهُ قَوما كَفَرُواْ بَعدَ إِيمَٰنِهِم وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ ٱلبَيِّنَٰتُ وَٱللَّهُ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ .

عاقبة الظلم في الآخرة

آثار الظلم وعواقبه في الآخرة كثيرة، نذكر منها:

1. الندم والحسرة: قال تعالى: ﴿َيَومَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيهِ يَقُولُ يَٰلَ ليتَنِي ٱتَّخَذتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلا﴾  وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الظُّلْمُ نَدَامَةٌ».

2. العذاب الأليم: يقول تعالى: ﴿فَوَيل لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِن عَذَابِ يَومٍ أَلِيمٍ﴾ .

3. السقوط عن الصراط: عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلمِرصَادِ﴾ ، قال: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ» .

4. ظلمات: عن رسول الله (ص): «... وإيّاكم والظلم، فإنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة...».

والظلمات يوم القيامة قد تكون العمى، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلأٓخِرَةِ أَعمَىٰ وَأَضَلّ

ُ سَبِيلا﴾ .

وقد تكون بمعنى التقلّب في ألوان المهانة والعذاب والشدائد.

5. عقوبة الظالم أشدّ من الظلم: عن الإمام عليّ (ع): «يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ» ؛ لأنّ المظلوميّة تذهب بذهاب الألم الناتج منها، وعلى الأكثر بموت المظلوم، بينما الاقتصاص من الظالم في الدار الآخرة يكون بعذابٍ أشدّ وأبقى وأدوم؛ ولذا قال الإمام عليّ (ع): «إِيَّاكَ وَالظُّلْمَ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ عَمَّنْ تَظْلِمُهُ، وَيَبْقَى عَلَيْكَ‏».

6. الله خصم الظالم: عن الإمام عليّ (ع): «وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ».

عاقبة ظالمي أهل البيت (ع)

لقد ذكرت الروايات أنّ الإمام الحسين (ع)، وكذلك غيره من أصحابه، وكذلك أخته العقيلة زينب (ع) قد صدر عنهم ما يلفت إلى عواقب القَتَلة والمجرمين.فقد أخبر الإمام الحسين (ع) ابنَ سعد أنّه لن يكون له مُلك الرَيّ، وقد حصل ذلك؛ وأنّه سيُذبَح على فراشه، وقد حصل ذلك على يدَي المختار الثقفيّ، الّذي قتل أيضاً قَتَلة الإمام الحسين؛ من ابن زياد، إلى حرملة، إلى شبث بن ربعيّ، إلى آخرين.وقد أخبرت السيّدة زينب (ع) الطاغيةَ يزيدَ في مجلسه بزوال ملكه وملك آل أبي سفيان عمّا قريب، وعدم حصول مبتغاهم، حيث أطلقت صرختها للتاريخ: «فكدْ كيدَك، واسعَ سعيَك، وناصبْ جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرَنا، ولا تميتُ وحيَنا، ولا تدركُ أمدَنا، ولا ترحَضُ عنك عارَها، وهل رأيُكَ إلّا فنَد، وأيّامُك إلّا عدد، وجمعُك إلّا بدَد» ؛ وهكذا كان، فبعد ما لا يزيد على سنوات ثلاث، هلك يزيد، وانتقل ملك آل أبي سفيان إلى آل مروان، بينما بقي ذكر آل محمّد (ص) يملأ المحافل، وينير الآفاق، ويجلو الظلمة عن الأبصار والبصائر. ولا شكّ في أنَّ ظلم الأنبياء والأوصياء (ع) أعظم من ظلم غيرهم، والعقاب الأُخرويّ عليه يكون أشدّ وأعظم، ولا سيّما مَن ظلم الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء، حيث يقول الله تعالى: ﴿يُضَٰعَف لَهُ ٱلعَذَابُ يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ وَيَخلُد فِيه

ِ مُهَانًا﴾.