نبيل إبراهيم الزركوشي
تعد الثورة الحسينيَّة إحدى أهم الملاحم التاريخيَّة التي شهدتها الحياة البشريَّة؛ وذلك لعظم الدروس والمفاهيم التي جاءت بها هذه الملحمة الإنسانيَّة الخالدة، ويعدها الكثير من المؤرخين منهاجاً ثورياً أخاف الجبابرة والطغاة عبر العصور، واستمد منها الأحرار الشجاعة والجرأة في مقارعة الاستبداد والظلم، لذا يمكن عدها منظومة تربويَّة متكاملة يجب أن تدرسَ للأجيال عبر العصور، لا سيما الحاليَّة والتي هي بأمسّ الحاجة للمثل والقيم التي جاءت بها كزرع روح الثقة والإيثار في نفوس الشباب وحثهم على الحفاظ عليها
وأنَّ الإيمان بالقضيَّة هو أحد أهم السبل التي تعطي للفرد الاندفاع نحو تحقيق الهدف والدفاع عن الحق بأغلى ما يملك الإنسان ألا وهو الروح والاستشهاد في سبيل ذلك وإعطاء دروسٍ مهمة للأجيال لا تزال تستنير بها ويمكن أنْ تكون منهاجاً يمكن الاستفادة منه في كل مفاصل الحياة.
إنَّ الثورة في مخاطبتها عبر المنابر الجانب العاطفي هو أمرٌ مهمٌ لنقل المظلوميَّة التي لحقت بأهل بيت النبوة «عليهم السلام» خلال المعركة وبعدها، ومن جانبٍ آخر يمكن الاستفادة أيضاً من الدروس الأخرى التي شهدتها الواقعة ومنها منهجيَّة التحاور وأساليبها وصورها وكيفيَّة فتح قنوات الحوار مع الآخرين للتواصل من أجل تحقيق رضا الله أولاً وحقن الدماء، وثانياً إذ نرى في جميع مراحل المعركة وقبلها واظب الإمام الحسين «عليه السلام» على الدعوة الى السلام وحل النزاع بالحوار إيماناً منه بأنَّ الاحتكام الى العقل والحوار هما أساس حل جميع المشكلات وقد اتسم خطابه بأمورٍ مهمة يمكن التعلم منها الكثير، إذ كان دائماً يخاطب وجدان وضمير الإنسان في داخل كل من يحاوره وهذا بحد ذاته يعدُّ أسلوباً من أساليب فن الإقناع، لا سيما استخدامه الآيات القرآنية والتوكز على خلفيته الفقهيَّة والدينة وقوة التأثير وهي من سمات بيت
النبوة «ع».
يمكننا الاستشهاد بهذا المجال بحادثة زهير ابن القين عندما مرَّ عليه في منطقة (زرود)، إذ استطاع إقناعه فكانت النتيجة أنْ التحق زهير بركب الإمام الحسين (ع ).
وهناك درسٌ بليغة لمن يريد أنْ يتعلم فنَّ الصلح من خلال الحوار ألا وهو ما يسمى بعدم غلق قنوات التواصل مع الآخر مهما كانت الظروف، مع العلم المسبق أنَّه لا يستجيب لذلك كونه لم يكن صاحب قرارٍ ومستبد في ذاته لذا نرى أنَّ الدعوة الى الحوار جاءت من خلال القول وذلك بالخطاب المباشر فكانت الدعوة المباشرة للجلوس الى طاولة الحوار وحسبنا خطابه عليه السلام قبل المعركة لعمر بن سعد قائد الجيش الذي يقتله بالعبارة التالية (إنّي أريد أن أكلّمكَ، فالقَني الليلة بين عسكري وعسكرك) وما رافق هذا الحوار من مساجلات دلت على أنهم لا يجنحون للسلم وأنهم طغاة يريدون الدنيا بالرغم من ذلك استمرَّ في دعوتهم للسلم مستخدماً التنوع في الأسلوب وهو أمرٌ مهمٌ جداً للوصول الى المقابل والتحاور معه والبحث عن المشتركات.
هنا كانت حواريَّة مهمَّة جداً إذ جاءت عبر الدعوة الى إقامة الصلاة في موعدها ففي سبيل ذلك كانت الصلاة الجماعية في يوم عاشوراء رسالة الى الآخرين لم يستطيعوا فهمها بالصورة الصحيحة ولكنها بقيت عبر التاريخ دعوة الى أنَّ الصلاة يجب أنْ تقام في وقتها في أحلك الظروف.
إنَّ المساجلات والخطب لمن بقي من الأسرة النبوية الشريفة عليهم السلام بعد سبيهم هي أيضاً حوارياتٌ يمكن أنْ نقفَ عليها كصورة للإباء وقول الحق حتى وإنْ كنت في موقف يعدّه العدو ضعيفاً فبقيت المواقف خالدة تتناقلها الأجيال الى وقتنا الحالي.
إنَّ عظم هذه الملحمة وخلودها عبر التاريخ وتجديد ذكرها سنوياً وبالقوة ذاتها لعلها من الأمور التي يجب أنْ يقفَ عليها كل من يبحث عن حقيقة الضمير الإنساني وكيف يمكن أنْ يتأثر شخصٌ بحدثٍ يبعد وقوعه عنه أكثر من ألف وأربعمئة سنة لعله الخلود الإلهي للملحمة الحسينيَّة.