العنوانُ المسرحيّ

ثقافة 2024/08/26
...

  عباس منعثر  

بشكلٍ عام، يميل العنوان في الرّواية والقصة إلى أن يكون أكثرَ ابتكاراً وغموضاً منه في المسرح، مما يتيحُ للقارئِ استكشاف المحتوى بشكلٍ أعمق. وفي الشعر، يجنحُ العنوان إلى الرّمزيةِ والغموض، حيث يعكسُ جوهرَ القصيدةِ بحيث يكون له أبعاد متعددة يمكن تفسيرُها بطرقٍ متباينة.

أما العنوانُ المسرحيّ فينحى غالباً إلى أن يكونَ أكثرَ تحديداً ووضوحاً في التعبيرِ عن المضمونِ الرّئيسيّ للعملِ المسرحيّ، إذ إنهُ يُستخدمُ لتوجيهِ الانتباهِ إلى محورِ الأحداثِ أو الرّسالةِ المركزية.  
في رحلةِ العنوانِ الأدبيّ، هناك تنوَّعٌ تبعاً لخصائصِ كلِّ عصرٍ أو حقبةٍ ارتهاناً بجوِّ ذلكَ العصرِ وفضائهِ الفلسفيّ وشريعتِهِ الأدبيةِ وعلاقتِهِ باللغة. فعندَ الآباءِ الأوائلِ (أسخيلوس، سوفوكليس ويوربيدس)، كانت العناوينُ، في معظمها، بسيطةً وواضحةً على شكلِ أسماءِ عَلَمٍ لأساطيرِ معروفةٍ للجميعِ تسردُ الأحداثَ عن بطلِ الحكايةِ ضمنَ سياقِ تقاليدِ المسرحِ الإغريقيّ، مثل: (أريستيا، بروميثيوس، أنتيغونا، أوديب، إلكترا، ميديا، ولوريستيس). بالنقيضِ، نهجَ المسرحُ الكوميديّ نهجاً أقلَّ صرامةً وأكثرَ انفتاحاً خاصةً على يدِ أرستوفانيس، حيث نجدهُ يضعُ معادلاً إشارياً بعيداً عن أسماءِ الشّخصياتِ، مثل (السّحب، الزّنابير، السّلام، ملهاة الضفادع، برلمان النّساء). وفي عصرِ النّهضةِ، تعقَّدتِ العناوينُ وتنوَّعت بشكلٍ أكبر، لكنّها لا تزالُ تقعُ ضمنَ الفضاءِ الدلاليّ والوظيفيّ العامِّ المُتعلِّقِ ببطلٍ أو أبطالٍ محدَّدينَ ينتهون نهايةً تراجيدية، مثل (التراجيديا الإسبانية، يهودي مالطا، الشّيطان الأبيض، روميو وجوليت، وهاملت). وثانيةً، وهو أمرٌ يستحقّ دراسةً مفصلّة، احتفظت المسرحياتُ الكوميديةُ لنفسِها بسياقٍ مغاير، من قبيل (الثعلب، الخيميائي، كلُّ رجلٍ في مرحِه، الليلةُ الثانيةُ عشرة، حلمُ ليلةِ منتصفِ صيف، وكوميديا الأخطاء). وتماشياً مع تعقيدِ الحياةِ والفنّ، انتقلَ العنوانُ نقلةً فلسفيةً ورمزيةً ولغويةً كبيرةً، إذ تُظهِرُ التجاربُ المسرحيةُ المعاصرةُ تنوّعاً هائلاً بالعناوينِ الموحيةِ الغامضةِ متعددةِ الدلالةِ والابتكاريةِ لغويّاً. وهكذا انتقلَ العنوانُ من البساطةِ في الأزمنةِ القديمةِ إلى التعقيدِ في العصورِ الوسطى والنّهضة، وصولاً إلى التنوع في العصرِ الرّقميّ.
ورغمَ ما أوردناهُ، ليس هناكَ قواعدُ صارمةٌ لتحديدِهِ أو صياغتِهِ في أيِّ نوعٍ من الأشكالِ الأدبية، وليسَ المسرحَ فقط، فقد يختلفُ الأمرُ من كاتبٍ إلى آخرَ، لأنَّ اختيارَ العنوانِ يتمُّ بناءً على الأسلوبِ الفنيّ والرؤيةِ الفرديةِ للكاتبِ وليسَ تبعاً لقوالبَ جاهزة.  
بالمجمل، يعرضُ العنوانُ نفسَهُ كدعايةٍ على المنتجِ في السّوق، هدفُهُ الأولُ جذبُ الانتباهِ وإعطاءُ تصورٍ للقارئِ أنَّ قراءةَ هذا العملِ الأدبيّ لن تكونَ خسارةً في الجهدِ ولا المالِ ولا الوقت. لكنَّ للعنوانِ وظائفَ محددةً أحياناً لا يمكنُهُ تجاوزُها إذا أرادَ أن ينطبقَ اسمُهُ على مضمونِهِ، فهو عنوانٌ في البدءِ والختام، يتمظهرُ كمدخلٍ بارزٍ وواضحٍ، وهي ربما إحدى نقائصِهِ الأساسيةِ العديدة. للعنوانِ أن يُبرزَ المضمون، تلكَ الوظيفةُ قريبةٌ من خطرِ تلخيصِ المحتوى، استجابةً لرغبةِ الكسلِ في البحثِ عن الخلاصةِ دونَ إعمالِ الذّهنِ في تعقيداتِ التعددِ والانفتاح. وللعنوانِ أن يُثيرَ الفضولَ كي يشعرَ القارئُ بالاهتمامِ، وهو هنا في خطرِ أن يُغلّبَ جمالَهُ الشّكليّ وروحَ المفارقةِ فيه على فحواهُ لأننا في الغالبِ، وفي عالمٍ صاخبٍ وكثيرِ المثيراتِ كالذّي نعيشُ فيه، لا يجذبُ انتباهَنا إلا الصّراخُ، أما ما يستدعي شيئاً من التأملِ فسيمرُّ علينا من غيرِ أن نلتفتَ إليهِ أو نُعيرَهُ ما يستحقُّ من الوقت. بذلكَ سيبدو عمقُ تشيخوفَ المذهلُ سكوناً وسطحية. كذلك، يمكنُ للعنوانِ أن يخلقَ التوقعاتِ وينمي الحسَّ البوليسيَّ فينا ككائناتٍ فضولية. هذه التوقعاتُ المُثارةُ لا يجبُ أن تخيبَ مرةً واحدةً، بل بالتسلسلِ على مدارِ قراءةِ النّص المسرحيّ، لأنّنا إذا خيبنا التوقعاتِ بالجملةِ، فلن يبقى ما يحثُّ القارئَ على الاستمرارِ إلا إذا قمنا بخلقِ توقعاتٍ جديدةٍ بوسائلَ أخرى. التوقعُ سلاحٌ ذو حدين، فلو خيبنا توقعاتِ القارئ دائماً يفقدُ التسلية؛ أما إذا تناوبناهُ بصحةِ توقعٍ وخيبةِ آخرَ فسيدفعُهُ ذلكَ إلى الانجرارِ مع الإغراءِ إلى ممارسةِ لعبةِ التوقعاتِ إلى النّهاية. ثمةَ تخوُّفٌ دائمٌ من أنَّ العنوانَ قد يميلُ بطبيعتهِ إلى إضفاءِ صيغةٍ صميميةٍ على النّص، أي إنَّهُ يحاولُ الإشارةَ إلى جوهرِ النّصِّ الثابت. تلكَ أخطرُ المحاولاتِ لأنَّ ذلكَ سيقسرُ القارئَ على البحثِ عن ذلكَ الجوهرِ الذّي ينتظرُ من يكتشفهُ، فتصبحُ قراءةُ النّصِّ أقربَ إلى حلِّ لغزِ الكنزِ كما في الحكايةِ الشّهيرة. خطورةُ وجودِ جوهر للنصِّ أنّكَ باكتشافكَ للجوهرِ ينتفي عندكَ الشّغفُ المعرفيُّ للتأملِ في تعقيداتِ الحالةِ البشرية، وبما أنَّ ثمةَ صيغة ثابتة للنصِّ فإنَّه لا أهميةَ لأيِّ شيءٍ آخرَ حالَ اكتشافِ تلكَ الصيغةِ، فتغدو جمالياتُ اللغةِ والغموضُ وتعقيدُ الحدثِ والشخصياتِ والمنعطفاتُ النّصيةُ بلا أهمية، وتغدو القراءةُ مجرَّدَ تدريبٍ على مهارةِ اقتناصِ الجواهرِ بلا جهد.
في التصميمِ الهندسيِّ للنصِّ المسرحيّ، يساعدُ العنوانُ بشكلٍ عام على توجيهِ بوصلةِ الاهتمامِ باتجاهٍ محدد، ويلقي بضوءٍ ولو شحيح على الموضوع، وربما له أن يُساهمَ لاحقاً في تلوينِ جو العرض. وبما أنهُ آخرُ ما يُلتقطُ، أغلبَ الأحيانِ، وأوّلُ ما يُكتبُ، فإن ثمّةَ تناقضاتٍ عديدةً يُجبرُ العنوانُ على التأملِ فيها والخروجِ منها بأقلِّ الخسائرِ الممكنة. أولُ هذه التناقضاتِ علاقةُ العنوانِ بالحريةِ. فكلُّ عنوانٍ مهما كانَ متعدداً ومفتوحاً هو قيدٌ بصورةٍ أو بأخرى. إنه موجودٌ كي يعني، كي يدلَّ، كي يشير؛ لكنَّ ما يعنيهُ العنوانُ هو شكلٌ قسريٌّ من توجيهِ التأويل. بإمكانِ أيِّ كلمةٍ أو تركيبٍ داخلَ النّصِّ أن يتخففَ منها ثقلُ الإرغامِ التفسيريّ؛ إلا العنوانَ، لأنّهُ واحدٌ وحيدٌ مستقلّ على الأغلبِ ولا يُمكنُ تعويضُهُ أو تخفيفُهُ. لذلك يلجأُ بعضُ الكُتّاب، في مختلفِ الفنونِ الأدبيةِ، وخاصةً الشّعر، إلى تجاوزِهِ على شكلِ نقاطٍ محصورةٍ بين قوسين (......) كي يتخلّصَ الكاتبُ من القسرِ والإرغام. مهما يكن، لا يهربُ الكُتّابُ من مسؤوليةِ اقتناصِ عنوانٍ ما لمادتِهِم الأدبيةِ، وإنْ شابَ ذلكَ الكثيرُ من الخسائرِ والانتهاكات.
إنَّ علاقةَ العنوانِ بالحريةِ لا تقلُّ خطورةً عن ثاني التناقضات: علاقته بالانفلاتِ والتسيّب. فلكي يهربَ الكاتبُ من العنوانِ كقيدٍ قد يقعُ في العنوانِ كحلقةٍ زائدةٍ عائمةٍ لا جدوى ولا وظيفةَ لها. وفي محاولتهِ التخلّصِ من أصفادِ المعنى، يقعُ العنوانُ، هنا، في قيدِ غيابِ المعنى. وكلتا الحالتينِ لا تقلّانِ خطورةً عن بعضِهِما. في هذه الحالة من الشّدّ والجذب، قد يحاولُ الكاتبُ المسرحيّ أن يجدَ منطقةً وسطى هي منطقةُ الأمان، بمعنى أن العنوانَ لا يُقيّد التأويلَ تماماً ولا يفتحُهُ على اللانهايةِ بشكلٍ كامل كذلك.
تناقض آخر هو اتسامُ العنوان المسرحيّ أيضاً بشيءٍ غايةٍ في التعقيد: إنهُ مزدوجُ الأزمنة. فمن جهةٍ أولى يعودُ بنا العنوانُ دائماً إلى الزّمنِ الماضي، كونهُ شيئاً مستقرّاً لغويّاً ومحدداً تركيبِيّاً ونسيجُهُ قد تمَّ رغْماً عنه. لكنهُ في الوقتِ نفسهِ يشيرُ دائماً وبلا انقطاع إلى ما سيحدثُ، إلى المستقبل لأنّهُ يتعرّضُ للانتهاكِ وإعادةِ القراءةِ كلما جدَّ جديدٌ في التفسيرِ والتأويلِ داخلَ النّص. فهو على ذلكَ ثابتٌ ومستقرٌّ ومتحوِّلٌ في الوقتِ نفسه. هذهِ الطّبيعةُ المائعةُ والرّجراجةُ تسمُّهُ بالمرونةِ حيناً وترميهِ بالانفلاتِ حيناً آخر.
للعنوانِ أن يُعلنَ الفرادةَ، بمعنى أنه  قد وجدُ الآن لصقاً بهذا النّصِّ، وليس سواهُ وهو تعزيزٌ للفرديةِ والاستقلاليةِ عن نظامِ الأشياءِ المحيطة مع أن عليه أن يرتبط بشبكة علاقات مع جسد النّص أو العرضِ في الوقتِ نفسِه، وهو تناقض فادح. على هذهِ الاستقلاليةِ الجزئيةِ أن تُحافظَ على التوازن، لأنَّ الذّاتَ البشريةَ تبغضُ الاستقلاليةَ التامةَ وتعدُّها انتهاكاً لذواتِنا من جهة، وتتخوّفُ كذلكَ من الطبيعة الانغلاقية والانانية المفرطة فيها من جهةٍ أخرى. فالسّر والمجهول مخيفانِ كالعَدَم. غيرَ أنَّ الصّورةَ المعاكسةَ مشوهةٌ أيضاً. فلو ضحَّى عنوانُ النّصِّ باستقلاليتهِ وتماهتْ ذاتُهُ كليّاً لفقدَ شخصيتَهُ وأصبحَ باهتاً لا يُغِيضُ القارئَ ولا يستفزُّهُ لمزيدٍ من المعرفةِ والتحدي.
في سعيهِ الدائمِ إلى التواصلِ والاتصالِ، يتجاوزُ العنوانُ المسرحي كونهُ عنصراً لغويّاً لا غير، فهو بمثابة بوابة تربطُ النّص بجمهورِه، داعياً إلى استكشافِ ما وراء الكلمات من علاقاتٍ وأبعاد. بهذا المعنى، يتحوّل العنوانُ من نقطة في النص إلى خيطٍ يتشابكُ مع مسارِ النّص، لأنّ دلالاته تتبدل وتتوسع وفق تتابع الأحداث وتطوراتها. هكذا، يحافظُ العنوان على خصوصيته وجاذبيته، ويفتحُ المجالَ دوماً لقراءةٍ أعمقَ أبعد غوراً تُعيدُ صياغتَهُ بطرقٍ غيرِ متوقعةٍ وجديدة.