حكاية الذات.. التَّواريخ والأوقات والأماكن

ثقافة 2024/08/27
...

 تشارلز فرنيهاو
 ترجمة: عباس حسين جمعة

الذَّاكرة هي ماضي البشر ومستقبلهم. ولكي تعرف ما أنت بوصفك شخصًا، لا بدَّ لك من فكرةٍ عما كُنته في الماضي. وفي كُلّ الأحوال، فإنَّ قصَّة حياتك المُستذكرة هي دليل رائع لِما ستفعله في الغد. وعن ذلك، كتب المخرج الإسباني السِّريالي لويس بونويل: "ذاكرتنا هي تماسكنا؛ وهي عقلنا، وشعورنا، وحتَّى أفعالنا. إنَّ فقدان الذاكرة يعني فقدان الارتباط الأساسي بمن نكون".
ليس غريبًا، إذن، هذا الانبهار بهذه القدرة البشريَّة الجوهريَّة. عندما أستعيد ذكرى حدثٍ من الماضي، من نحو المرة الأولى التي جرّبت فيها السباحة على الظَّهر في البحر وحدي، فإنَّي لا اكتفي بتذكر التَّواريخ والأوقات والأماكن، أو ما يطلق عليه علماء النفس "بالذَّاكرة الدلاليَّة". بل إنَّ ما أفعله يتجاوز ذلك بكثير. إذ إنَّي، بطريقةٍ ما، قادرٌ على إعادة بناء اللَّحظة مُطعمةً ببعضٍ من التَّفاصيل الحسيَّة، وعيش التَّجربة ثانيةً، مثلما حدثت، من الدَّاخل. إنَّي أعود بذاكرتي إلى التَّجربة ذاتها، إلى المناظر والأصوات وروائح البحر، وأصبح مسافرًا عبر الزمن له القدرة على العودة إلى الحاضر حالما تتدخل إملاءات "اللَّحظة الحاليَّة".
وهذه حيلةٌ نفسيَّة مذهلة دفعت العلماء المعرفيين إلى الإصرار على معرفة آليَّة حدوثها. تُعرف الذاكرة التي وصفتها بـ "الذاكرة السِّيرذاتيَّة" لتعلقها بالسرد الذي ننسجه من تجاربنا الشَّخصيَّة، وهي مختلفةٌ عن "الذاكرة الدلاليَّة" المعنية بالحقائق، وأنواع أخرى من الذاكرة الطويلة المدى المُضمرة المعنية بتذكر الأفعال المعقدة مثل ركوب الدراجة أو عزف آلة السَّاكسفون.
عندما تسأل الناس عن ذكرياتهم، فإنَّهم غالبًا ما يتكلمون كما لو إنَّها مقتنيات ماديَّة ملموسة أو تمثلات ثابتة عن الماضي يجب حراستها بعنايةٍ والحرص على الاحتفاء بها. لكن هذا التَّصور عن الذَّاكرة خاطئ تمامًا. فالذِّكريات ليست مُخزنة في الدَّماغ مثل العديد من أشرطة الفيديو الجاهزة للوضع في الجهاز والتَّشغيل متى ما رغبت في استعادة الذكريات. قد تحاول قصص الخيال العلمي والفانتازيا إقناعنا بعكس ذلك مع أنَّ الذِّكريات ليست كيانات مستقلة يُمكن انتزاعها من الرَّأس، مثلما كان يفعل الباس دمبلدورن، مدير المدرسة في رواية هاري بوتر، وتقطيرها وتصفيتها كي يُشاهدها شخصٌ آخر. هذه الذِّكريات هي إعادة بناء عقلية، ومُلصقات تصويريَّة خلابة متعددة الوسائط لما كانت عليه الأمور في الماضي، ولآليَّة تشكلها بِما هي عليه في الحاضر. تُخاط الذِّكريات السيرذاتية بعد استدعائها من المعلومات المخزونة في الأنظمة العصبيَّة المتنوعة، مِما يجعلها عرضة للتحريف فضلًا عن أنها غالبًا ما تكون غير معول عليها بالقدر الذي نظنهُ.
ونحن على علم بذلك بناء على أدلةٍ متعددة المصادر. إذ أجرى علماء النفس، في سبيل المثال، دراسات على الشَّهادات الَّتي يُدلي بها شهود العيان بينوا فيها كم هو سهل التَّلاعب بذكريات الشَّاهد من خلال توجيه أسئلة مُضللة أو ملتبِسة. تَبين أيضًا السُّهولة النِّسبية لخلق ذكريات عن أحداثٍ لم تقع قط في الواقع في ذهن الشُّهود إذا ما هُيّئت الظُّروف التَّجريبية تهيئةً صحيحة. وهذه الذكريات يمكن أن تكون واضحةً للغاية من نحو الدراسة الَّتي نفذتها كيم ويد في جامعة ووِيك. اتفقت ويد مع أولياء أمور الطلاب المشاركين للحصول على صورٍ لهم في سِن ما قبل المدرسة، وتأكدت إذا ما كانت بعض الحوادث، مثل ركوب منطاد الهواء الساخن، قد حدثت بالفعل. ثم عدلت بعض هذه الصور لإظهار وجه الطفل في واحدة من السِّياقات الَّتي لم يجربها قط، مثل الصعود في سلة منطاد هوائي في الجو. بعد أسبوعين من عرض الصُّور على المشاركين، "تذكر" نحو النِّصف منهم رحلة المنطاد في الطفولة، وقدموا أوصافًا نابضةً بالحياة لها، وأظهر العديد منهم دهشة عندما علموا أن هذه الحدث لم يقع قط. في عالم الذاكرة، فإنَّ حقيقة وضوح تفاصيل الحدث المُستذكر لا يضمن أنه قد وقع بالفعل.
حتَّى الذكريات المُفرطة في العاطفة عرضة للتحريف. تصف ما يُعرف "بالذاكرة الخاطفة أو القصيرة" تلك الذكريات السَّاطعة سطوعًا بالغًا لأحداث كبيرة راسخة بفعل العواطف الجياشة التي تستثيرها. بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر، بادر عددٌ من الباحثين إلى جمع شهادات المواطنين عن الطَّريقة الَّتي علموا بها بالخبر. وبعد سؤالهم ثانيَّة بعد ثلاث سنوات، لاحظ الباحثون تغيرات طالت واحدًا، على الأقل، من التفَّاصيل الرئيسة في نصف الشَّهادات التي أدلوا بها. في سبيل المثال، قال المُستجوبُون، في المرة الثانية بأنهم قد سمعوا الخبر في التِّلفاز خلافًا لروايتهم الأولى الَّتي ذكروا فيها أنَّ الخبر بلغهم  شفهيًا.
ما الذي يفسّر غياب إمكانيَّة التعويل على هذه الذِّكريات؟ يتلخص أحد العوامل في أنَّ التَّذكر هو على الدَّوام إعادة تذكر. لو أني تذكرت في أيّ ظرف سمعت الخبر الفظيع عما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (كُنت حينها أحاول الخروج من حمام السِّباحة في إسبانيا)، فإني أعلم بأنَّني لا أتذكر الحدث فعلًا بقدر ما أتذكر آخر فعلٍ يُذكرني به. وعلى شاكلة لعبة الهمسات الصينية، يُمكن لأيّ خطأ صغير أن يُذاع وينتشر على طول سلسلة التَّذكر. والرَّاجح هنا هو أنَّ الانطباعات الحسية النَّاتجة عن سماعي للخبر يُمكن أن تُخزن تخزينًا دقيقًا. إنَّه التجميع- أو التَّعديل اللَّاحق-  الَّذي قد يختلف نسبيًا عما كانت عليه الأمور في الواقع.
عندما ننظر إلى الطريقة الَّتي يعتمدها الدَّماغ في بناء الذكريات، يغدو عدم موثوقيَّة الذاكرة أمرًا منطقيًّا تمامًا. وفي التَّمثيل الصُّوريّ للذاكرة السِّيرذاتيَّة، يجمع الدماغ أجزاء من الذاكرة الحسيَّة مع معلومات أكثر تجريديَّةً عن الأحداث، ويعيد تجميعها وفقًا لمتطلبات الحاضر. وصف الباحث في مجال الذاكرة مارتن كونواي كيف تتناطح قوتان في عملية التذكر. تحاول قوة المُطابقة المحافظة على صدق تمثيل الذاكرة لما حدث فعلًا بينما تحاول قوة التَّماسك ضمان أنَّ القصة الناتجة تتناسب مع احتياجات الذات التي غالبًا ما تتضمن تقديم الأنا بأفضل صورةٍ.
تُجسد فرجينيا وولف، إحدى أهم الكُتاب الَّذين تناولوا موضوع الذَّاكرة، هذه العملية تجسيدًا بارعًا في كتاباتها. في مقالتها السِّيرذاتيَّة، "صورةٌ للماضي"، تُخبرنا وولف عن أقدم ذكرياتها الَّتي هي نمط الزهور على فستان والدتها، الذي كانت تُشاهده عن قربٍ، وهي تجلس في حجرها في أثناء رحلة القطار إلى سانت آيفز. في البداية، اقترنت هذه الذِّكرى لدى وولف بالرِّحلة إلى مدينة كورنوول؛ وهذا الاقتران ملائمٌ للغاية لإحالته على ما كانت حقًا إحدى ذكرياتها المُبكرة: الاستلقاء في سريرها في حضانة سانت آيفز، والاستماع  إلى صوت هدير البحر. لكن وولف تُقر أيضًا بأمرٍ مزعجٍ واجهها. إذ يوحي الضوء في العربة بعتمة المساء، مما يزيد من احتمالية وقوع الحدث في رحلة العودة من سانت آيفز إلى لندن. إنَّ قوَّة المُطابقة يدفعها نحو التمسك بالحقائق في حين تُحفزها قوَّة التَّماسك على سرد قصة جيدة.
كم عدد الذَّكريات الأُخرى الَّتي هي قصصٌ تُلائم الذَّات؟ لا شك أنَّ مشاعرنا ومعتقداتنا الحالية تشكل الذكريات الَّتي نُنشئها. من الصعب تذكر المُعتقدات السياسيَّة في الأزمان الماضية مع هذه التَّغيرات الهائلة الَّتي شهدها لا العالم الواسع فحسب، بل نحن أيضًا. كم منا بوسعه أن يتذكر بدقةٍ شعوره الطَّاغي بالفرح عند فوز توني بلير في الانتخابات عام 1997؟ عندما تتغير عواطفنا في الحاضر، تحذو حذوها ذكرياتنا. وهذا ما يصفه جوليان بارنز بشكل جميل في روايته الفائزة بجائزة البوكر "الإحساس بالنهاية"، عندما يقود التَّغير في مشاعر بطل الرُّواية، توني، تجاه والديّ حبيبته السابقة، إلى استرجاع ذكريات جديدة عن علاقتهما. "لكن ماذا لو تغيرت مشاعرنا تجاه تلك الأحداث والناس القدامى في مرحلةٍ لاحقةٍ؟ لا أعرف هل هناك تفسير علمي لهذا.. كل ما يمكنني قوله هو أنَّه حدث، وأنَّه أدهشني".
قد تكون ذكريات الطفولة هي الأكثر خصوصيَّة وتميزًا بين الذكريات التي نعتز بها. قليلةٌ هي الذِّكريات الَّتي يُمكن التَّعويل عليها  قبل سن الثلاث أو الأربع سنوات، ولذا، يجب التَّعامل مع الذِّكريات قبل ذلك بحذر وريبةٍ. عندما نفكر في الحيل المعرفية المتعلقة بالذاكرة السِّيرذاتيَّة، فلا عجب، ربما، أن يستغرق الأطفال بعض الوقت حتَّى يشرعوا في التَّذكر. الظَّاهر هو أنَّ كثيرًا من العوامل تؤدي دورًا مُهمًا في خروج الأطفال من حالة فقدان الذَّاكرة المقترنة بالسَّنوات الأولى، واللغة والقدرات السَّردية هي من هذه العوامل. عندما نكون قادرين على ترميز تجاربنا بالكلمات، يصبح سهلًا نقلها إلى الذَّاكرة. مع ذلك، الأعجب أن حدود فقدان الذاكرة في الطُّفولة تتغير كلما اقتربت من هذه المرحلة. وبحسب دراستين  حديثتين، إذا سألت الأطفال عما يتذكرونه من طفولتهم المبكرة، فإنهم يتذكرون أشياءً أقدم مما يميلون إلى تذكره عندما يكبرون.