مفهوم الشعر النسوي.. إشكاليَّة المصطلح والدلالة

ثقافة 2024/08/28
...

د. سمير الخليل

 يُثير مصطلح الشعر النسوي كثيراً من التساؤلات والرؤى وطاقة من التأمل والمقاربات النقديّة، لما يحمله من دلالة على مستوى التجنيس والتوصيف والتعالق الجمالي بين المرأة والشعر، وارتباك التسمية، فهل الشعر النسوي هو كل شعر تكتبه المرأة ويُنسب إليها؟! أو أنّه الشعر الذي يجسّد ويصوّر هموم النساء عموماً؟ ووفقاً للتوصيف الأخير فمن الممكن للشاعر (الرجل) أن يتناول هموم المرأة وما تتّصف به وما تعانيه وذلك ليس مقنعاً، مثلما نجد ذلك في أنموذج الشعراء الذين اهتمّوا بالمرأة وصفاً وغزلاً وتماهياً مع عوالمها من شعراء قدماء ومعاصرين، وحسماً للخلافات والتقاطعات أرى أنَّ كل شعر تكتبه المرأة هو شعر نسوي.

 وإنَّ الإشكالية الأخرى ترحّل إلى طبيعة المصطلح وغموضه واللّبس الذي يثيره من خلال أنَّ الأدب عموماً ذو طابع وجوهر إنساني ووجودي (ليس نسبة للوجودية)، ولا يمكن للأدب أن يقسم وينشطر إلى توصيفات و(كانتونات) و(خانات) أو رؤى تجعله ينتمي، ويتجوهر بالجزء ويبتعد عن المعنى الإنساني والجمالي الكلّي، فهناك كثير من النقاد والدارسين يرفض هذه المصطلحات وجعل الأدب أو الشعر يعبّر عن حالة خاصّة وجزئية ووصف إجناسي محدد، فالرؤية الإنسانية الشاملة للإبداع ترفض هذا التقسيم الذي يخلق قطيعة ويحوّل الإبداع إلى منطقة وتمركز جهوي ترفضه طبيعة الإبداع، والأدب الإنساني الذي يتجوهر ويتمحور ويتخذ من الإنسان دالّة ومركزاً له، ومن خلاله يتم الاشتباك مع الواقع الإنساني بكل خصائصه وأبعاده السيوسيولوجية والسايكولوجية والسياسيّة والوجودية من دون عزل المكوّنات البشريّة عن بعضها، باعتبار أنَّ الحياة هي مفهوم كلياني، وأي تمركز يعدّ نوعاً من كسر الحياد، وانغماساً في التحيّز والتعمّق في التعاطف (المبرمج) والمفتعل لإظهار رؤى وانطباعات خاصّة وغير محايدة قد تضرّ الظاهرة أو المسمّى نفسه وجعله منقطعاً ومعزولاً عن جدل الحياة، وجدل الرؤى وجدل التعبير الجمالي، فالشعر رؤية إبداعية تنتمي للإنسان، وطبيعة هذا الفهم لا ترفض مصطلح (الشعر النسوي) فحسب بل تشمل كلّ الأنواع والأجناس التي تؤطّر بالإشارة الجهوية لنوع معين من الناس والتمركز الإجناسي، وجعل المسمّى عنواناً للإبداع وهذا يشمل مصطلحات أخرى زئبقية ومرتبكة الدلالة وقابلة للجدل والفحص المعرفي والاصطلاحي مثل أدب الحرب وأدب الطفل وأدب المهجر وأدب الواقع... وغيرها من التوصيفات العمومية التي تناقض المفهوم الكلّي والإنساني للأدب والإبداع وسنن التعبير.
وقد انبرى كثير من الدارسين إلى أنّ هذه المصطلحات قد تقتضيها الدراسة أو الرصد أو التحرير الإجرائي، وإنّها توظّف على مستوى التصنيف والبحث المدرسي لكن المسوّغ لا يصمد إزاء أنّ المنهج النقدي أو المقاربات النقديّة ينبغي لها أن توظّف أو تسوّغ التبسيط والنسق التعليمي والمدرسي فالفرضيّة النقديّة تنطلق من المتعالي والمتقدّم، ولا ترتكز على التبسيط والتداولية والفهم والإشارة التقليدية، فالسؤال النقدي والرؤى النقدية تمثّل نوعاً من المحرك الفلسفي والعلمي لاسيما بعد كشوفات النسق المعرفي ومنجزات التطوّر الجمالي والحداثي للفكر الإنساني المعاصر بمختلف موضوعاته وحقوله.
ولعلّ الشعر النسوي يتخذ دلالة أخرى غير التوصيف أو التحديد الإجناسي وربط المرأة بالشعر بطريقة تكون هموم المرأة بمعزل عن الحياة والواقع، لذا فإنّه الشعر الذي يستوحي ويحاكي هموم المرأة وطقوسها، والدلالات الوجودية والفسيولوجية والسايكولوجّية والاجتماعية للمرأة من دون تحديد أو زجّ هذا الاشتغال تحت تسمية أو يافطة قد لا تعبّر عن الذات الأنثوية أساساً من خلال هذه النظرة الضيقة والتحديد الذي يكشف عن نوع من التحيّز والمبالغة، والمرأة كائن خارج المجتمع وخارج جدل الوجود، وهذا العزل لا يخدم النظرة الإنسانية بل يعمّق في إحدى دلالاته قصور المرأة، وضعف دورها، وإنّها يجب أن يكون لها عوالمها الخاصة وهي تعبّر عن نسق ذاتوي وليس موضوعياً أو غيرياً، وهذه المفاهيم المغلوطة تنتمي في توجّهاتها إلى المنحى أو التفكير أو القصديّة الذكوريّة، وزج ثنائية الذكورة والأنوثة والإشكالية الجندرية في عمق العمل والاشتغال الإبداعي.
إنّ المرأة في المجتمعات المعاصرة لا ينبغي النظر إليها على أنّها كائن (مخملي) وكأنّه يعيش في برج عاجي أو عوالم ذاتيّة، بعد أن أصبحت هموم الحياة وهموم الإنسان وأزماته تجري وتشمل المرأة والرجل، بل إنّ كثيراً من النساء لهنّ دور، وإنجاز وجهد يفوق كثيراً من نماذج الرجال المهمشين والخاملين والمعزولين عن جدل الواقع التاريخي واليومي.
إنّ الإقرار بحقيقة هذا المصطلح الفضفاض والزئبقي والمثير للّبس، والأسئلة والإحالات يشير إلى إقرار آخر بوجود مماثلة مع الآخر أي إطلاق صفة إجناسية مقابلة هي (الشعر الرجالي) أو (الرجولي) أو (الذكوري)، وبعدها يتسع المصطلح إلى (شعر ذكوري) و(نسوي) وهذا يطابق استراتيجيات الفكر الطبقي والنزعة الذكورية أساساً وبذلك نعود إلى فرز الحياة وإلى العناصر والمحدّدات والتوصيفات التصنيفية التي تسهم أساساً في إزاحة وتهميش وتضليل المفهوم الإنساني للإبداع والأدب.
ولا يمكن النظر إلى الشعر الذي تكتبه النساء بعيداً عن الطابع (النسوي)، والهموم الأنثوية، فهو شعر نسوي قد ينطوي على ميل سياسي أو وجودي أو فلسفي أو تأمّلي، والسؤال هل ما كتبته الخنساء مثلاً رثاء استثنائي ورؤى وجودية؟ وينطبق هذا التوصيف على فدوى طوقان، وسلمى الجيوسي ونازك الملائكة، وأرى أنّ الشعر النسوي تصنيف أرادت به المرأة التميّز في رؤاها وهذا حق، وليس جنساً أدبياً. وإنّ الهم أو المكابدة الإنسانية للمرأة تقع وتوظف في كل أنواع الشعر والأدب وعملية تصنيفها شعرياً ليست في ظني جنساً أدبياً مستقلاً، إنما شكل وطبيعة التعبير الإنساني للمرأة، ويمكن الركون كحل تعبيري وإجرائي يصف الشعر بأنّه يتناول هموم المرأة، أي المرأة في الشعر بعيداً عن النسبة والإلصاق وكأنه نوع من الرقمية والتداولية السطحية والوصف غير الدقيق والدال. وأرى أنّ المناط للمبدع فما تكتبه المرأة يمكن تسميته (نسوياً).