الأربعون ليست سؤالاً فيزيائياً وسيكولوجياً

ثقافة 2024/08/28
...

يقظان التقي

سنّ الأربعين غالبًا ما يُنظر إليها على أنها نقطة تحوّل مهمة في حياة الإنسان، إذ تُعدّ مرحلة وسطى بين الشباب والشيخوخة، وقد تُطلق عليها أحيانًا “منتصف العمر.” في هذه الفترة، يبدأ الكثير من الناس في إعادة تقييم حياتهم وإنجازاتهم، والتفكير في الأهداف التي لم تتحقق بعد.
من الناحية الثقافية والفلسفية، الأربعون يمكن أن تكون وقتًا للتفكّر العميق والنضج، إذ يجمع الفرد بين حيوية الشباب وحكمة التجارب السابقة. في بعض الثقافات، يُعدّ الوصول إلى هذه السن علامة على الحكمة والاستقرار.

هنا حوار مع الفيلسوف الإنكليزي كيستوفر هاملتون بشأن وعي التجربة الشخصية بالزمن أو الحياة البشرية ، وتجربة الشعور بالزمن أو المرور بمراحل الحياة مثل سن الأربعين. والقدرة على تحليل الأفكار الميتافيزيقية والسيكولوجية المرتبطة بمفاهيم الزمن، العمر، والمعنى الوجودي بناءً على المعرفة والمعلومات التي يمتلكها.
بمعنى آخر، مناقشة المفاهيم الفلسفية والسيكولوجية التي يتعرّض لها البشر في هذه المرحلة من الحياة، مثل إعادة تقييم الأهداف، الإحساس بالزمن، أو البحث عن المعنى، ولكن دائمًا من منظور موضوعي ومجرد. يعتمد على تحليلي للمفاهيم الإنسانية والثقافات المختلفة. منتصف العمر، الذي غالبًا ما يحدد في أواخر الثلاثينيات إلى الخمسينيات، يعد مرحلة محورية في حياة الإنسان. من جوانب عدة، يمكن تفسير هذه المرحلة كالآتي:
1. التطوّر النفسي والعاطفي: في منتصف العمر، يمر الكثير من الناس بتجارب تؤدي إلى نمو نفسي وعاطفي عميق. قد يبدؤون في إعادة تقييم حياتهم، وأدوارهم الاجتماعية، وعلاقاتهم. هذه الفترة قد تكون فرصة للنمو الشخصي والتأمل في ما يحقق لهم الرضا.
2. التوازن بين الشباب والنضج: يكون الشخص في هذه المرحلة غالبًا في قمة نضجه العقلي والخبراتي، لكنه لا يزال يحتفظ بطاقة وحيوية الشباب. هذا المزيج يمكن أن يُنتج رؤية أكثر عمقًا للحياة واتخاذ قرارات أكثر حكمة.
3. التفكر في الماضي والمستقبل: منتصف العمر هو وقت للتفكر في الإنجازات الماضية والتخطيط للمستقبل. يشعر البعض بالرضا عن مسار حياتهم، بينما يشعر آخرون بالقلق بشأن الأهداف غير المحققة أو الفرص الضائعة.
4. البحث عن المعنى: قد تبدأ الأسئلة الوجودية في الظهور بشكل أكثر وضوحًا، مثل “ما الهدف من حياتي؟” أو “كيف يمكنني تحقيق السعادة والرضا؟”. هذا البحث عن المعنى يمكن أن يكون دافعًا قويًا للتغيير والتحول الشخصي.
5. التحديات الصحية والجسدية: في هذه المرحلة، قد يبدأ بعض الأشخاص في مواجهة تحديات صحية تتعلق بالتقدم في العمر، مما يمكن أن يكون دافعًا للاهتمام باللياقة البدنية والصحة بشكل أكبر.
بشكل عام، منتصف العمر يمكن أن يُنظر إليه على أنه وقت للتفكر والتجديد، إذ يجمع الإنسان بين الخبرة والوعي الشخصي من جهة، والفرص والإمكانات التي لا تزال متاحة له من جهة أخرى.

ماذا تعني سنّ الأربعين، أو الخمسين، وكيف يمكن معايشة أزمة منتصف العمر؟ هل نحن موجودون، ماذا تعني الحياة؟
انطلاقاً من تجربة شخصية أحدثت انقلاباً نفسياً، الفيلسوف هاميلتون يحاول أن يتفكر في السؤال الأربعيني والسؤال الوجودي على نحو يبدو محبطاً، وأحياناً لا طائل منه، على نحو الحوار الذي أجرته معه «Philosophie».
*ماذا اكتشفت في سن 40 سنة وقلب حياتك؟
ـ كريستوفر هاميلتون: والدتي وإخوتي وأخواتي انتظروا إلى سنّ الثامنة والثلاثين ليقولوا لي الحقيقة عن والدي الذي توفي وأنا في عمر 18 سنة، وبالواقع لم يكن والدي الفعلي، حافظوا على السر طويلاً معتبرين ذلك مفيداً بالنسبة إلي.
والدي البيولوجي ما زال على قيد الحياة ، وهو في الحادية والثمانين، وبصحة جيدة. هذا الوالد الذي أجهله كان أستاذي والمشرف على دراستي. الانعكاسات والآثار التي شعرت بها شكلت إشكالية افتعالية في حياتي، وبالواقع تجمّدت في مسألة التعاطي مع مسألة إشكالية لامست وعيي المنضج في الأربعين.
الأفكار الفلسفية- التي درستها إلى الآن- أخذت جذرها وعمقها من تلك الوقائع الشخصية وبناءً على التجربة الشخصية وفلسفة الحياة وتأملاتها.
*هذه الأزمة هل تفاعلت في عمر آخر؟
ـ كلا، لم أعش تلك اليقظة النفسية على النحو نفسه، والتي استمرت ما بين 25 إلى 30 سنة، ولا أريد القول إنها كانت قاسية إلى حدود ما.
أزمة الأربعين ليست سؤالاً زمنياً، هي أكثر سؤال سيكولوجي ميتافيزيقي، والحياة نفسها هي “الفضاء الدافئ” الذي يستضيف الدروس والاختبارات.
الأربعون هي أولاً فكرة ذهنية مفهومية، كأن تقول في المصطلح الإنكليزي “منتصف العمر” أو “العمر الوسيط” هي مرحلة وجودية وتجربة غير محددة بعد الأربعين . وقد تمتد إلى مراحل عمرية لاحقة لحصد المزيد ربما في امتيازات العزلة، مثل الإبداع والتناغم مع الطبيعة وفهم أعمق للنفس البشرية.
وفي إحدى تجاربي البحثية، التقيت شاباً اعترف لي بأنه تجاوز محنة الأربعين، وبإعطائه المجال الواسع لكلام شرح لي رغبته وشغفه بأن يكون موسيقياً، ولكن كان على وعي أنه لا يملك موهبة كافية تؤهله لتحقيق حلمه. كان في عمر 27 عاماً وحاول إحداث هذا التحول الكامل من وجوده الإنساني. لا يفلح الأمر أحياناً كثيرة.
*ما المظاهر والإثارات التي تدلّ على تلك الأزمة؟
ـ هذه الأزمة الأربعينية تُحدث فينا نوعاً من الاضطراب الوجودي، تشعر فيها تحت جلدك، وتقاربها بنوم من ملامسة وعي منضج وبطاقة شعورية تشبه المخدر العاطفي والنوم ، وبنوع من الجمود وعدم القدرة على تغيير الأشياء، أن يكون لك والد آخر؟
ماذا تستطيع أن تفعل إزاء هذا الواقع المستجد، وهناك شخص وضعك في هذا المكان من العالم وبالوقت ذاته، أن لا ترتبط بالدم إلى الوالد الآخر الذي أعطاك اسمه وعمق مشاعرك نحوه. وهذا مدعاة للألم والضغط الكبير.
فكرة أنني “لست كريستوفر هاملتون حقيقة”، فكرة مؤلمة جداً.
*لماذا؟
ـ هذه الأزمة عمّقت وعي في الاستحالة القدرية والتحديد المطلق لخياراتنا كل خياراتنا من الحياة أجسادنا الهشة، حتى الموت.. حتى لو أردت توضيح ذلك لحب ما نحن عليه، وهذا بالواقع يرتكز على مجموعة كبيرة من الصفات والأفعال التي شكلت عناصر بنائية لما نحن عليه، أو ما هو معروف أو ظاهر من قبل الآخرين ولي من قبلنا. هذا يشكل حقيقة مخيفة لجهة هذه المسافة القائمة بين ذواتنا ولكل القوة التي تشدنا وتحيلنا إلى أمكنة أخرى والحياة التي نعيشها فعلاً هي ليست سوى الحيوات الممكنة.
والأربعون تقدم وجهين، من جهة الاستشعار والحدس بالموت الذي يتقدم بطيئاً والإحساس بالوقت الذي يجري سريعاً. ومن جهة أخرى يفقد العالم بالنسبة إلينا بعضاً من وزنه ونشعر بالثقل النوعي للحياة.
يتشتت، يقارن هذه المرحلة بالفاكهة المستوية في فصولها وزمنها الطبيعي وبحالة استواء استثنائية قبل مواسم القطاف.
الأربعون هي قمة، ولكن قمة حساسة وغير مستقرة.
*وما نظرتك لحياتك بعد هذه القمة؟
ـ صعود أكثر في نوع من الفراغ والخوف من العجز والكسل، ولكن أعود إلى الحياة التي أقطعها بنوع من الاكتفاء النفسي وبنوع من الشعور بالغبطة الداخلية. إني أدرّس علم الفلسفة في الجامعة وأختبر حالة من اليقين المعرفي. في الوقت نفسه هذا الشعور يطرح عندي أسئلة عدة، معظمها أسئلة وجودية من مثل الخيارات التي اتخذتها والمسار التعليمي واللغوي. والسؤال الآخر المكمل، هو عن الفراغ القدري الذي لا تعرف كيف يحصل بأصدقاء تخرج معهم أو تسهر معهم على طاولة العشاء ثم تغادرهم أو يغادرونك، والسؤال لم يتغير منذ عهد أفلاطون السؤال الفلسفي كيف يمكن أن أعيش حياة جديدة؟
معرفة السببية صعبة جداً ومن دونها لا استنتاجات منطقية. أعمل الآن على اعترافات تولستوي مع تلاميذه، وهي لا تقول لي شيئاً جديداً: الفردية أو الشخصية الإنسانية تبقى سراً من الأسرار. بماذا تخرج من كل هذه الحياة، ما المعنى أصلاً لكل هذه الحياة. هذه أسئلة من دون أجوبة وبالنسبة لتولستوي الحياة “مستحيلة”!
الخروج
*وكيف يمكن الخروج من هذا الفراغ؟
ـ إذا كان مستحيلاً معرفة ما سنكون عليه، يبقى التمني أن نستمر في السؤال، من دون تخيل أن نصل ذات يوم إلى جواب كاف. التعميم المنهجي هنا مستحيل. ومن غير المفيد التفكر كثيراً في الحياة الماضية، أو الندم على أفعال ماضوية أو حتى الخوف من الحياة المستقبلية. خياراتنا محمولة إلينا أكثر من أننا نحن حاملوها فعلياً.
*خياراتنا لا نملكها؟
ـ نكتشف في عمر الأربعين أنَّ خياراتنا سلسلة من الأصوات المتلاحقة، حتى لا أقول المصادفات والخلاصات التي لا نملك إمكانية مناقشتها، أحياناً كثيرة هي غير خاضعة للنقاش حتى مع استخدام المنطق والشك كأدوات.
فانتازيا وجودية تظهر من تلك الإشكالية العمرية تعرف أننا موجودون، وهكذا ولا شيء آخر.
*وكيف يمكن الهرب من هذا الشعور بالكائن الماضوي على طرف الحياة التي نحن عليها؟
ـ لا توجد قاعدة أو آلة قياس لتحديد الإحساس بالنوستالجيا أو الندم. ولكن بإمكاننا التحصن ضد الإيديولوجيا، إيديولوجيا السعادة التي تنتشر في إنكلترا، كما في فرنسا. أنا كثير الشك في فكرة السعادة تلك، أنا أميل إلى القلق أكثر في الحياة وأنزع عنها إيديولوجيا الاستقرار، والمسألة تتداخل مع علم النفس والتاريخ والفيزياء الجسدية وكل ما يعنيه أن يكون الشخص إنساناً.
هذا لا يعني أنَّ الحياة لا تقدم لنا فرصة أخرى من السعادة، هي فرصة دائماً متاحة ولكن ليس لكل الأوقات ومحددة بجدليات تضادية. جورج أوريل كتب في بحثه عن الفنان التشكيلي دالي “كل وجود هو عبارة عن تراكم من الخيبات”. نحن لا نستطيع أن نمنع حصول هذه الخيبات وحتى التأكيد على مذهب الحياة نفسه.
*أنت تطلق إعلاناً أخلاقياً وجودياً؟
ـ أخلاقية عدم اليقين المطلق.
*وعلى ماذا ترتكز تلك الأخلاقية؟
ـ على فكرة أننا في مرحلة ما نتوقف عن التفكير أو نعجز عن التفكير.. لا توجد حياة أخرى غير تلك التي نعيشها. على سبيل المثال أنا شخصياً غادرت في سنة ما إلى بولونيا تلك المدينة الجميلة أثرت في حياتي من دون أن أفكر كثيراً أنَّ ذلك يتبع بشكل عميق حياتي اللندنية. كان عندي تلك الإمكانية في السفر من مدينة إلى أخرى ومن عبور إلى آخر يتجاوز بذلك التضاد في الحياة التي أنا عليها الآن..
واحد من كبار الكتّاب صامويل جونسون، يشرح مدى حاجاتنا إلى التجديد في حياتنا، وفاكهة جديدة من الخيال الذي نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى في الأزمات وإلّا فالحياة تصير مستحيلة. أضحك غالباً لأنَّ أحد أصدقائي لا يستطيع الدخول إلى قهوة معتقداً بوجود قهوة أخرى أفضل وأحسن أبعد قليلاً منها. هذا يشبه الفصام عن العالم الملموس إلى فاعل أساسي ومركز للأحداث لا حيلة له.
*والفلسفة كيف تساعد في هذا المجال وفي الربط والتواصل بين هذه الأفكار؟
ـ نعم، آخذاً في الاعتبار أنَّ الفلسفة وسيلة لمتابعة هذا العمل الروحاني والنفسي إلى ما لا نهاية. لا شك أنَّ مساري الفلسفي في الاختبارات ساعدني في مقاربة الأربعين بهدوء أكثر ربما. أنت في حفل شعوري على مساحة من الحياة، وفي الإرادة بتحقيق أمور غير منتظرة، وبالنهاية نحن نتحرك لنصل إلى هذا الهدوء والسلام الذي لن نعرفه بصورة مطلقة. وأحفظ في رأسي” Rochefoucauld”، الذي يذكرنا دائماً أنَّ الفلسفة هي نوع من العلاج النفسي ومصدر إضافي لمساعدة الناس في حياتهم اليومية ومعالجة مشكلاتها بشكل خلّاق وفعّال.
هوامش متفائلة
بشكل عام، منتصف العمر يمكن أن يُنظر إليه على أنه وقت للتفكر والتجديد، إذ يجمع الإنسان بين الخبرة والوعي الشخصي من جهة، والفرص والإمكانات التي لا تزال متاحة له من جهة أخرى.
مكان يجمع بين ضوء النهار والظلال الدافئة: حيث يكون الوقت في اليوم أشبه بالعصر أو الغروب، عندما يكون الضوء ناعمًا وذهبيًا، يسلط بريقًا خاصًا على الأشياء، ويجعلها تبدو أكثر عمقًا ووضوحًا. هذا الضوء يشير إلى الحكمة التي تأتي مع التجارب، لكنه لا يزال يحتفظ ببعض الدفء والحيوية.
طريق يتوسط بين مسارين: مسار يحمل آثار خطوات عديدة، يمثل الماضي بما فيه من تجارب، نجاحات، وإخفاقات. والمسار الآخر يمتد إلى الأمام، محاطًا بأشجار خضراء ولكن مع بعض الأوراق التي بدأت تسقط، يشير إلى المستقبل المليء بالفرص والخيارات الجديدة، ولكنه يحمل أيضًا بعض الغموض.
مشاهد من الحياة اليومية: يُمكن رؤية أشخاص يمارسون أنشطة حياتية متنوعة، كعائلة تستمتع بلحظات هادئة معًا، شخص يتأمل بمفرده تحت شجرة، أو مجموعة من الأصدقاء يجتمعون للحديث والضحك. هذه المشاهد تعكس التوازن بين الالتزامات الشخصية والاجتماعية، والحاجة للهدوء والتأمّل.
سحابة من التفكير: هناك سحابة في السماء، ليست مظلمة تمامًا وليست بيضاء بالكامل، تمثل الأفكار والأسئلة التي تتردد في ذهن الشخص في هذه المرحلة من العمر. قد تحتوي على ذكريات من الماضي وأحلام المستقبل، مع انعكاس مستمر حول معنى الحياة والهدف منها.
حديقة مليئة بالزهور والنباتات المتنوعة: بعضها في أوج ازدهاره، وبعضها بدأ يذبل. هذا يمثل العلاقات والتجارب في حياة الشخص، حيث توجد علاقات مستمرة وأخرى انتهت، لكن كل منها ساهم في تكوين الشخص كما هو الآن.
هذه الصورة الرمزية لمنتصف العمر تعكس توازنًا بين الحكمة المكتسبة من الماضي والتفاؤل بالمستقبل، مع شعور عميق بالوعي الذاتي والقدرة على التغيير والنمو.