أ.د عامر حسن فياض
من الضروري تجنب الاستسلام، لما ذهبت إليه معظم الدراسات الاستشراقية الغربية، من آراء متسرعة وجاهزة، بشأن الأصول الغربية للتأملات الإنسانية الأولى في ظاهرة السلطة السياسية واعتبارها نتاجات إبداعية خاصة ومميزة للحضارة اليونانية/ الإغريقية.
حيث تسرعت تلك الدراسات فأنكرت دور العقل الشرقي القديم والوسيط في شقيه العربي والأعجمي، في صياغة أية تأملات عقلية عن ظاهرة السلطة السياسية، ونفت أية مساهمة جادة له بهذا الخصوص، أو على أقل تقدير أنكرت أصالة هذه التأملات، عندما لم يكن هنالك مفر من الاعتراف بوجودها. فترتب على ذلك إنكار العقل الغربي لأية مساهمة حضارية شرقية قديمة، أو عربية إسلامية وسيطة، في إنتاج فكر سياسي مميز الملامح ومحدد السمات، ناسيا أو متناسيا أن حقائق الحياة الاجتماعية تبقى في النهاية ذات طبيعة نسبية، بما في ذلك ما تعارف الناس على اعتبارها حقائق مطلقة. فكل الحقائق الإنسانية في النهاية مرتبطة بمتغيرات الزمان والمكان وخاضعة لأحكامها، وذلك وحده سبب كافٍ لجعل الحقائق النسبية هي المتسيدة اجتماعيا وفكريا في كل شيء وعلى كل شيء.
إلا أن ذلك النفي والإنكار لم يقدر له أن يستمر طويلا، فالمستجد من الدراسات عن الفكر السياسي في الحضارات الشرقية القديمة والعربية الإسلاميَّة الوسيطة، وثراء نتائجها وايجابياتها جعل السابق من الأعمال الاستشراقية ونظرياتها واستنتاجاتها السلبية في هذا الصدد، مجرد استسلام لمنطق أحادية الرؤية الأوروبية، ووقوعا في مأزق مركزية الذات الحضارية الغربية المنعكسة في آراء وأفكار ليس لها من مزية، إلا زعم التجرد والحيادية والموضوعية واحتكارها لخاصية الريادة والأسبقية الزمنية في مجال اختصاصها، وتبني العديد من الباحثين الغربيين لها ورواجها على أيديهم، مما ضيق ربوع الفكر السياسي وقصر حدوده على العقول والحواضر اليونانية الغربية، بينما ذهبت عقول غربية أخرى إلى الالتزام بشروط العلمية والموضوعية، معترفة بأصالة الإسهامات الفكرية الشرقية القديمة والوسيطة، بل إن بعضها ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقلب الصورة رأسا على عقب عندما جعل أسس الفكر الغربي الحديث وأصوله ذات مرجعيات شرقية قديمة وعربية إسلامية، وسيطة كما فعل روجيه غارودي في دراسته عن حوار الحضارات.
وتأسيساً على ما تقدم فليس أمامنا إلا الجزم منذ البدء في أمر لم يعد قابلاً لا للنفي ولا الإنكار، ألا وهو مشروعية الحديث فن فكر سياسي شرقي قديم وعربي إسلامي وسيط ووجوب البحث فيه ودراسته. وإذا كان العقل الأكاديمي الغربي يجهل حتى الآن الكثير من نتاجات ذلك الفكر وعناصره السياسية، ولا يستطيع بفعل جهله هذا أن يحدد لا الطبيعة الكلية لمنتظمات الأفكار والمؤسسات السياسية في الحضارات الشرقية القديمة والعربية الإسلاميَّة الوسيطة، ولا مقوماتها ولا خصائصها ولا ما هو عام منها أو خاص، فلا يحق لهذا العقل أن ينفي أو ينكر ما يجهله أصلاً.
فضلاً عن افتراض مفاده بأن السلطة السياسية ظاهرة ملازمة لكل وجود اجتماعي، وأن تأمل العقلي في السلطة السياسية (الفكر السياسي) ظاهرة تابعة للظاهرة السياسية وملازمة لها بالضرورة في كل زمان ومكان. فإن وجد المجتمع الإنساني وجدت السلطة السياسية، وإن وجدت السلطة السياسية وجدت حتما أفكار الانسان وتأملاته العقلية فيها وحولها. فالقول بالوجود المؤكد والمتلازم للظاهرتين الاجتماعية والسياسية (المجتمع والسلطة الحاكمة)، يستتبع بداهة القول بوجود التأملات الفكرية فيهما وحولهما، ومن ثم سينتفي كلياً ويسقط الزعم القائل بافتقار المجتمعات الإنسانية الشرقية القديمة والوسيطة، إلى الأفكار والتأملات السياسية لأنه زعم مخالف لمنطق الأشياء.
كما أن من مشكلات الفكر السياسي في المجتمعات الشرقية القديمة والعربية الإسلاميَّة الوسيطة، ما درج عليه بعض الدارسين من استخدام مصطلح (الطغيان/ الاستبداد الشرقي) لتوصيف واقع السلطة السياسية في هذه المجتمعات التي يوصف واقعها الاقتصادي الاجتماعي بأنه “نمط إنتاج عبودي شرقي” أحيانا، و “نمط إنتاج إقطاعي شرقي” أحيانا أخرى، وفي أحيان ثالثة يوصف بأنه “نمط اقطاعي شرقي”، تأسيسا على التقديرات الذاتية للباحثين بشان الخصائص الأساسية المميزة لنمط الإنتاج في المجتمعات الشرقية، والذي يبدو في رأيهم مختلفاً عن أنماط الإنتاج الاقتصادي الاجتماعي السائدة في المجتمعات الغربية المعاصرة لها، والموصوفة بأنها أنماط إنتاج عبودية ثم فيما بعد
اقطاعية.
وينطلق النقد الأساسي لهذا المصطلح ومضامينه النظرية ودلالاته العملية من افتراضه بأن السلطة السياسية في المجتمعات الشرقية، تنفرد بخصائص الفردية والمطلقية والاستبداد والشخصنة والقدسية الدينية، مما يعني إنكاره الكامل، مبنى ومعنى، لوجود خصائص مماثلة لها كلياً أو جزئياً في أشكال السلطة السياسية في المجتمعات الغربية القديمة والوسيطة. وإذا لم يكن بالإمكان إنكار وجود تلك الخصائص السلبية في الأنظمة السلطوية الشرقية القديمة والوسيطة فليس هذا دليلا على صحة مضمون المصطلح وصواب دلالته، فموضوع الخلاف الجوهري معه هو إنكاره للطبيعة العامة لتلك الخصائص ونفيه لوجودها في غالبية الأنظمة السياسية القديمة والوسيطة الشرقية والغربية على حد سواء، ورفضه الاعتراف بأنها خصائص مشتركة بينها مما يجعل منها ظاهرة إنسانية سياسية عامة، وليست حكراً على مجتمع أو مجتمعات إنسانية دون غيرها.