المكياج الرقمي.. ميديولوجيَّة لوجوه الذكاء الاصطناعي
عمر ساجد حسن
صدر بالعاصمة الأردنيَّة عمَّان، كتاب "المكياج الرقمي- دراسة ميديولوجيَّة"، للأستاذ المساعد الدكتور علي مولود فاضل، وضم أربعة فصول، موزعة بين 200 صفحة، عن دار أمجد للطباعة والنشر والتوزيع.
بيّن المؤلف في مقدمته، أنَّ هذه الفكرة ولدت "نتيجة متغيرات المشهد الإنساني وملامحه الذي بدا واضحًا في العقد الأخير من القرن الحالي، لا سيما مع ظهور التكنولوجيا الحديثة وزيادة الضّخ الرقمي على الحياة الواقعيَّة للبشر؛ فبرزت معها الأشكال الآدميَّة الجديدة، ونما الاستنساخ والشَبَه الافتراضي الذي خلقته فضاءات التقنيَّة الرقميَّة وأدواتها القادرة على تخطي الكثير من الثوابت والموانع عبر التنقير وخلخلة الهويَّة الذاتيَّة وتهاجر الحياة الاجتماعيَّة صوب الواقع المعزّز.
إذ يضيف مولود، أنَّ متابعته للعالم الافتراضي الذي أوجدته السوشيال ميديا وسكانه، كان: "أمرًا يستدعي كنون اهتمامي، ومقارنة ما تلتقطه أحداقي من واقعيَّة الأشخاص، وما ألحظه في عالم التشبّك الرقمي، مدعاة للوقوف على هذه الظاهرة ودراسة ضبطها الأيقوني بشيءٍ من التفحص التاريخي والماضي القريب والواقع المحترب؛ والذي خلق أجسادًا الكترونيَّة، وأرواحًا رقميَّة، ووجوهًا يكسوها الفلتر المغذّى بذكاء الآلة".
إنَّ مضمون الكتاب قد بحث في أصل المكياج وبداياته، وكيف وجد البشر حاجته إليه سواءً أكان ذلك في بدايات الخلق أم مع بزوغ الحضارة وتقادم العصور وشيوع التلوين على وجوه الناس والتلاعب بالملامح بشكلٍ يسيرٍ، فكان ذلك قدحًا مهمًا في مجال المكياج ومواده والفوارق المتداخلة بينه وبين التجميل، وبالأخص بعدما نمت هذه الظاهرة مع الزمن وأخذت تتوسع سجالاتها على الحياة البشريَّة، حتى امتدت إلى مختلف المناسبات، والمحافل، والبيوت، وشكّلت بعدًا جديدًا في طاقم الأشخاص وظهورهم، بل مع الألفيَّة الجديدة تعاظمت ودخلت بسببها العمليات التجميليَّة التي تسمح بتقليد المشاهير أو تحسين العيوب الخلقيَّة ومعالجتها كما يصف أصحابها.
كذلك عرض الكتاب، الصورة والدوافع التي تؤخذ لأجلها، والكيفيَّة التي يلعبها المكياج عليها، وذلك استوجب الرجوع إلى بدايات الصورة وارتجاجاتها على حياة الأشخاص وما يريدون قوله عبرها، سواء أكانت تلك الصورة البدائيَّة، أم التي تطورت في أواسط القرن الماضي مثل: صورة الأسود والأبيض أو الصورة الفوتوغرافيَّة بمجملها، أو تلك التي خلقتها الرقميَّة وحسّنت من معالمها وفضاءاتها، وانتهاءً بالصورة الذاتيَّة (السيلفي)، وبالتوازي جاءت معها الصورة المتحركة (الفيديويَّة) بأشكالها المتعددة، وبطرق تصاويرها المختلفة مثل: الكاميرات أو الهاتف الذكي "الموبايل"، فضلاً عمَّا أدخلته البرامج المتقدمة من تجميلٍ، وتزييفٍ، وتغييرٍ لبعض الملامح الشكليَّة للإنسان والتي صاحبتها الصورة وقابلياتها على امتداد السنين، وهذا الفصل لم يكن بمنأى عن فرص الدمج، والإضافة، والتعديل التي تحدث بعد التصوير (الفيديو) وما تسمح به العدسة من فلاترٍ لتحسّن جودة الصورة وتشذيب معانيها، ويبدو أنَّ فكرة المونتاج والمكياج تتداخل ماهيتها فعليًا وليس نسجًا لغويًا فقط، وهذا ما يمكن سبر غوره بعد قراءة الفصل الثاني من الكتاب.
في الوقت نفسه فانغماس المجتمع في الفضاء الافتراضي والركون إليه في أغلب الأحيان؛ كان سببًا في الولوج إلى عوالم تطبيقاته، وما أحدثته من هلهلة مسكونة بالإدمان والتشبث بحيثياته لدى سكان الأرض الثالثة، وحتى أبناء الحضارة الأولى واستهلاكهم للمواد المعروضة فيه، وتناولهم المحتوى الرقمي بغضّ النظر عن محتواه وجدواه لديهم، وأنَّ لجوء الجمهور الواسع من البشر إلى هذا العالم والمكوث فيه كان لافتًا لنظر المؤلف، وأن السلوكيات المزدوجة التي يُمنى بها أفراد هذا العالم أو القبائل الرقميَّة -كما أسمها في مقالٍ علميّ سابقٍ- فما مَثّلَ الفيس بوك الغرض الذي أنشئ لأجله، ولا الانستغرام، أو السناب شات، ولا حتى التيك توك، ولا غيرهم من عوائل الرقميَّة التواصليَّة الجديدة، بل أنَّ أغلبها تحوّل إلى فضاءاتٍ وهميَّة تفسح المجال لمَنْ يقطنها أنْ ينتج أو يستهلك ملذاته بحبورٍ، وينغمس في أيقوناتها بشكلٍ يفوق وجوده في الواقع، ويتلقّى جراء ذلك جملةً كبيرةً من المواد ذات المحتوى غير النافع للعقل البشري السوي، إلا في حدودٍ ضيقةٍ لخانة الإنسان وفاقة روحه الفعليَّة، لقد كان هذا العالم غير التقليدي فسحةً ومجالاً لسلوكياتٍ جمّةٍ أنْ تطفح على المشهد الأيقوني، وتغدو هذه الوسائط البديلة نماذج تلغي الكثير من واقعيَّة الذات البشريَّة، وتناوشهم في الحين ذاته إصبعًا صالحًا للنقر على العالم بأسره والتجوال فيه من دون عناءٍ أو قيدٍ وعبر وجوهٍ تصلح لدخول أيّ معرتكٍ، والتأثير بمَنْ يشاهدها بالملامح المصطنعة التي وفرتها العدسات المرشحة أو الفلاتر ضمن أطر الرقميَّة المؤقتة لحياة الملايين من الأجساد الوهميَّة المنقوصة الحضور، وهذا وغيره ما هو - في جوهره - إلا امتدادٌ لفكرة المكياج الذي وضعته الحضارات سابقًا، وجمّلته الصور بعدها، واستدرجته مواقع التواصل وذكاء تطبيقاتها مؤخرًا على جلد الإنسان وصراعه الرقمي الجديد.
وعطفًا على ما ورد عاليه، وممَّا أدلى به المؤلف، فإنَّ هذا التطور الهائل في القدرات التقنيَّة، والتفرس الكبير في الطاقة التكنولوجيَّة، وانطلاقًا من الطمع بمفهومه المنفتح على عدّة مصارع –يأتي المال في مقدمتها-، فإنَّ ذلك وغيره من الإضاءات التي جاءت نتيجة الغوص في قراءة هذا الكتاب، قد خلصت إلى ما يحدث الآن من تغييرٍ لملامح البشر عبر الصور والمقاطع الفيديويَّة ذات الفلاتر المصطنعة، والتي دلت في حقيقتها على أنَّه مكياجٌ رقميٌّ يُستخرج عبر التقنيَّة الحديثة والتهجين المعلوماتي لتفاصيل الوجه أو الجسد مع الذكاء الاصطناعي المعزّز بالعدسات المرشّحة وبما يناسب المكونات الخلقيَّة لكلّ بشرٍ، وما هذا الاستنساخ البشري المفترض إلا بمثابة التكرار لوجوه الآخرين، وفتح المجال على دفتيه لتنامي عمليات التجميل، وزيادة المشكلات النفسيَّة، وتعاظم الخلافات العائليَّة، وتفكّك العلاقات الأسريَّة، واتّساع حدّة الخداع، ونشوب التقاطعات بين الواقع الفعلي للشخص، والشكل الوهمي الذي خلقه عالم الميتافيرس في ظروفٍ يسيرةٍ، والتي كوّنت مجتمعةً تعوّدًا دائمًا أو شبه دائمٍ لسلوك مستعملي الميديا الحديثة والذين ألفوا ما يمكن اصطلاحه بالتعوّد الرقمي على الوجوه المنتجة عبر الفلاتر السنابيَّة، واستمرارهم في سفراتٍ أيقونيَّة غير مكلّفة التطبيق، وغير سعيدةٍ لمَنْ يدرك عمقها.
إنَّ هذا التحول الشكلي أو البشري الذي قد ياتي مرادفًا للتحول الجنسي، وشذوذًا عن القاعدة الفطريَّة الإنسانيَّة (بحسب المؤلف) أوجد وفرةً للعديد من المشكلات الاجتماعيَّة أنْ تنمو، واشتبكت وسائط التواصل الاجتماعي في صيروراتها الاتصاليَّة نحو تدعيم هذه المشكلات، وبدأت أراجايف القلق تحيط المجتمعات وتشكّكها في فهم الحقيقة من عدمها بل والبحث في مضمون التنكر الرقمي لوجوه الإنس الواقعي، وما هذا وغيره إلّا يقينٌ بضرورة إيجاد حدٍّ فعليٍّ لهكذا ظواهر صارت تستفحل في لبّ المجتمعات، وصار من اللازم البحث في الظنون المرجوحة صوبها، ووضع هذه الحياة المتصارعة في ميزان التجربة؛ لاستخراج الدوافع والإشباعات التي يحتاجها متقمصو هذا الوهم الافتراضي؛ لأنَّ الجيل المقبل سيشهد عدّة صدماتٍ إزاء ما يتلقاه من اختلافٍ بين الوهم والحقيقة.