ضحى عبدالرؤوف المل
في خضم تغييرات دراماتيكيّة شكلت مسار التاريخ المصري الحديث، ينقلب الدارس إلى عمل أدبي يسبر أغوار هذه التحولات عبر رمزية غنية وبورتريهات مؤثرة. في روايته "الأشجار تمشي في الإسكندرية"، يقدم الروائي علاء الأسواني دراسة مستفيضة للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر خلال الفترة الانتقالية من الملكية إلى الجمهورية. من خلال إلقاء الضوء على حياة وأحداث تدور حول مطعم "أرتينوس"، يتناول الأسواني التباين بين الطبقات الاجتماعية وتناقضات الماضي والحاضر، مما يعكس تحولات المجتمع المصري بعمق وذكاء.
في قلب الرواية، يظهر مطعم "أرتينوس" كمركز رمزي يعبر عن الاستمرارية في وجه العواصف السياسية التي اجتاحت مصر. هذا المعلم التاريخي لا يمثل فقط فضاءً للتجمع الاجتماعي، بل هو تجسيد للماضي الارستقراطي الذي ما زال يحتفظ بجاذبيته رغم مرور الزمن. مع كل زيارة، يبرز "أرتينوس" كحارس أمين على ذكريات الطبقة العليا التي كانت ذات يوم في قمة الهرم الاجتماعي.
يتجلى التباين بين القديم والجديد من خلال تفاعل الشخصيات مع هذا المكان المرموق. بينما يظل الارستقراطيون القدامى مخلصين لمطعم "أرتينوس"، ويشعرون بالحنين إلى فترات مجدهم، نجد الطبقة الجديدة التي صعدت إلى السطح بعد الثورة تميل إلى تفضيل أماكن تتناسب مع أسلوب حياتهم العصري. هذه الديناميكية تعكس التوتر العميق بين الرغبة في الحفاظ على التراث والتطلع إلى المستقبل الذي يفرض نفسه بشكل متسارع.
واحدة من اللحظات الرمزية البارزة في الرواية هي انتقال صورة الملك فاروق إلى صورة جمال عبد الناصر في "أرتينوس". هذا التغيير ليس مجرد تعديل ، بل هو تجسيد للانتقال الجذري من عهد الملكية إلى الجمهورية. الصورة الجديدة، التي تُعرض في إطار مذهب، تعكس التباين بين ترف الملكية وواقعية العصر الجمهوري الجديد.
الرمزية هنا عميقة؛ إذ تعكس الصورة الجديدة بشكل مباشر كيف يمكن للتحولات السياسية أن تؤثر على الرموز الاجتماعية والثقافية. تغيير الصورة يعكس التحولات التي شهدتها البلاد، حيث أن تبديل الرموز ليس مجرد تغيير بصري بل يعكس تحولاً جوهرياً في القيم والسلطة.
من خلال "أرتينوس"، يسلط الأسواني الضوء على الصراع الطبقي الذي يتجلى بوضوح في ولاءات الزبائن. الارستقراطيون القدامى، الذين يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم، يعبرون عن الحنين إلى فترة كانت فيها الطبقة الأرستقراطية في قمة السلطة الاجتماعية. في المقابل، الطبقة الجديدة، التي تعتنق قيم الحداثة وتبتعد عن رموز الماضي، تتجنب الأماكن التي تذكّرهم بالزمن الذي لم يعودوا جزءًا
منه.
هذا التباين بين الأجيال يعكس الصراع الأعمق حول القيم والتقاليد. بينما يسعى الجيل القديم إلى التمسك بما يعتبرونه القيم التقليدية، يسعى الجيل الجديد إلى تأكيد هويته عبر الابتعاد عن الرموز القديمة، مما يؤدي إلى فجوة متزايدة بين الفئات الاجتماعية.
تضفي شخصية عدلي الأسود عمقاً إضافياً إلى الرواية، حيث تعكس التوترات الداخلية التي يعيشها الأفراد خلال فترة الانتقال. عدلي، بطموحاته وتساؤلاته حول هويته وأصله، يجسد التناقض بين الطموحات الفردية والواقع الاجتماعي المتغير. هذا الصراع الداخلي يضيف بعداً نفسياً معقداً يعكس كيفية تأثير التحولات السياسية والاجتماعية على
الأفراد.
عدلي يمثل نموذجاً للأشخاص الذين يجدون أنفسهم عالقين بين الماضي والحاضر، مما يساهم في تعزيز فهم التحولات الجذرية التي شهدتها مصر.
إن تعقيد شخصية عدلي وأزماته الوجودية يسلط الضوء على الصعوبات التي يواجهها الأفراد أثناء محاولتهم التكيف مع واقع جديد يتحدى هوياتهم وتطلعاتهم.
مع صعود جمال عبد الناصر، تغيرت القيم الاجتماعية والطبقية في مصر. هذا التغيير أدى إلى ظهور طبقة جديدة تتبنى نمط حياة يتناقض مع التقاليد الارستقراطية القديمة. الرواية تسبر أغوار هذا التحول عبر تباين التفضيلات في الأماكن الاجتماعية والأحداث التي تعكس الصراع حول القيم
الجديدة.
التغيرات التي حدثت تحت قيادة عبد الناصر لم تكن مقتصرة على السياسة فقط، بل شملت أيضاً التحولات الاقتصادية والاجتماعية. الطبقة الجديدة، التي تبنت نمط حياة عصري، تسعى لتأكيد هويتها من خلال الانفصال عن الرموز القديمة التي كانت تمثل فترة مختلفة. هذا الصراع حول القيم والرموز الثقافية يعكس التحديات التي واجهها المجتمع المصري في فترة الانتقال، حيث كان هناك تباين كبير بين القيم القديمة والجديدة.
تُضيف الرواية بعداً إضافياً عبر رمزية مصنع توني كازان، الذي يمكن تفسيره كمثال على التحول الاقتصادي والاجتماعي في فترة عبد الناصر. المصنع، كرمز للتطور والصناعة، يعكس التغييرات التي شهدتها مصر في مجال الاقتصاد خلال فترة عبد الناصر. يمثل المصنع الانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الصناعي الجديد، مما يسلط الضوء على التحولات الاقتصادية التي رافقت التغيرات
السياسية.
لكن السؤال حول ما إذا كان حزن توني على فقدان مصنعه هو حزن على عهد ملكي مضى أم على تغييرات اقتصادية جديدة يفتح المجال لتأملات أعمق. قد يكون هذا الحزن تعبيراً عن فقدان فترة كان فيها اليهود جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي في مصر، أو قد يكون حزنًا على التغيرات التي أدت إلى تحولات كبيرة في الصناعة والاقتصاد. تفتح الرواية المجال لتفسيرات متعددة حول كيفية تأثير التغيرات السياسية على الأبعاد الاقتصادية
والاجتماعية.
تُقدم رواية "الأشجار تمشي في الإسكندرية" تحليلاً عميقاً للتغيرات الطبقية والسياسية في مصر، من خلال رمزية مطعم "أرتينوس" والشخصيات والأحداث التي تدور حوله. يعكس الأسواني بمهارة الصراع بين القديم والجديد، ويكشف كيف يمكن للتحولات السياسية أن تؤثر على جميع جوانب الحياة، بدءاً من القيم الاجتماعية وصولاً إلى الذوق الشخصي.
الرواية ليست مجرد سرد للتغيرات السياسية، بل هي دراسة دقيقة للتأثيرات التي خلفتها هذه التحولات على المجتمع المصري. من خلال تصوير الشخصيات والصراعات الطبقية والتغيرات الاقتصادية، تعكس "الأشجار تمشي في الإسكندرية" تعقيد التغيرات التي شهدتها مصر خلال فترة الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، وتقدم رؤية عميقة للتحديات التي واجهها المجتمع المصري في تلك الفترة.