الاستنطاق الشعري وفاعليَّة الحضور في قصيدة النثر
علي لفتة سعيد
يفهم الاستنطاق على أنه ما يتمّ استنطاقه ليتكلم ويكون مستنطقا، وأيضا هو الاستجواب الذي يجريه المحقق ليستنطق المتهم. أو هو ما يمكن فهمه، أنه ما يتصل بالنطق والمنطوق وما يصل له المنطق. وفي الشعر يكون الاستنطاق مشابها ومختلفا. مشابها في استنطاق اللغة والتعبير عنها من قبل المنتج الذي يحتاج اللغة ليستنطق أفكاره والتعبير عنها، وكأنه يحاكم اتهام اللغة ويحفّزها لتعبّر عن دواخله.
ومختلفًا من أنه ليس استجوابًا مع الآخر، بل هو مقابلةً استجوابيَّةً ما بين النصّ المكتوب، والحادثة التي يُراد لها أن تكون حاضرةً، كأن تكون تاريخيّةً أو مجتمعيّةً أو حواريّةً بين شخصين أو حتى مخياليّة. بمعنى أنّ الاستنطاق الذي نقصده هو المقابلة لتوضيح ما كان غائبًا أو مضمرًا، ليكون حاضرًا وظاهرًا ومعلومًا وقابلًا للاستدراك، بطريقة النطق الشفاهي أوّلًا، ثم الكتابي، لتعظيمه أو التورية عنه أو ملامسة الحادثة أو الواقعة، أو ليجعله محسوسًا عقليًا، وملموسًا كأنه يتذوّق الجملة، بمعنى استنطاق ما يريده من أثر التفاعل بين الفكرة والتدوين، ليقرّبه إلى ما يريد المتلقّي معرفته، وإن ارتدى ثوبًا جديدًا، أو حتى ارتدى ذات الثوب الذي ارتداه المدوّنون السابقون، لكن بمفرداتٍ جديدةٍ في رصف معانيها، تناور الماضي بروح الحاضر وتسعى لإعطاء الحاضر صورة المستقبل، وليس بطريقة التناص مع نصّ آخر، كأن يكون قرآنيًا أو وضْع الأثر على أثرٍ ما.
ولهذا يكون السؤال. أين يكمن الاستنطاق؟ وفي أيّة قصيدةٍ من قصائد الشعر العربي يتواجد؟ وما هي أسس هذا الاستنطاق الذي نريد التوصّل إليه، ليكون أحد مفاتيح الاشتغال الشعري، الذي يسعى إليه الشاعر الراهن، على الحداثة الشعريّة، أو الذي لم يزل يكتب بشكليّة النص العمودي أو التفعيلة الشعريّة.
إنَّ الاستنطاق لا يعني زمنيّة الشعر أو مكانيته، فالشعر ينتمي إلى العالم الكوني، إلى ذات الإنسان الشاعر، إلى المكنون الذي يحتكم إلى الميتافيزيقية التي لا يمكن الإمساك بحبلٍ منها أو رأس سطرٍ، لأن التشعّب حاضرٌ في مسالك التدوين. فالاستنطاق يكمن في الإبداع، وفي طريقة الاستجواب التي تحصل أوّلًا بين الشاعر وفكرته، ثم بين الفكرة والقدرة على التدوين، بعدها بين التدوين والقدرة على اللعب في اختيار المفردات الملائمة، لتكون الإجابة على الاستجواب واضحة الغاية، فالاستجواب الشفوي يحتاج إلى تحويله من حركية الاختفاء إلى نطق مكتوب. وهو لا تخلو منه قصيدة من قصائد الشعر المختلفة. ولهذا فإن الاستنطاق يأتي بعدّة اشكال:
أوّلًا: للتعبير عن الاستنطاق الداخلي لشيءٍ ما يفور داخل مخيالية الشاعر ومخيّلته، وما يريد قوله على شكل قصيدة.
ثانيًا: للتعبير عن حادثةٍ ما، كأن تكون تاريخيةً أو دينيةً أو سياسيةً أو اجتماعيةً، لكي يقرّبها إلى المتلقّي.
ثالثًا: للتعبير عن حالة العاطفة التي يشارك فيها المتلقّي، وخاصة تلك التي ترتبط بالوجدانيات والعقائد الدينية.
رابعًا: للتعبير عن حالةٍ مرفوضةٍ يراد لها أن تتوسّع، وهي معروفة للمتلقّي، وتحتاج إلى استنطاق الأدلّة على ذلك، بما يرتبط بالوعي.
خامسًا: للتعبير عن حالةٍ لا يراد لها أن تتوقّف، فيستنطق المدلول لإقامة الدليل، بالاعتماد على العاطفة التي تجمع الجميع.
لذلك يمكن القول، إن الاستنطاق الشعري كما يبدو هو المراوحة بين حالتي التفكير والقدرة على التدوين. وهو الأمر الذي قد يبدو موجودًا في قصيدة العمود، لأنها قصيدة منبرٍ وقصيدة إشهارٍ صوتي، منذ أن وجدت حين تقرأ في الأسواق والبلاط، وأماكن تجمّع الناس. ولهذا نرى الشاعر يستنطق الكلمات لاستنهاض الهمم، أو لإرسال الإشارة إلى ما يمكن التنويه عنه بطريقةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة. أو لاستنطاق حادثةٍ تاريخيةٍ دينيةٍ من أجل درّ العواطف. وقد خفّت عملية الاستنطاق مع قصيدة التفعيلة التي اهتمت بالشكل العروضي، لكنها جاءت ما بين الإشهار لهذا الاستنطاق الخارجي، وما يبين التدوين كاستنطاقٍ تدويني. لتأتي قصيدة النثر وتعتمد على الاستنطاق الددويني/ الداخلي، الذي يفجّر اللغة بطريقةٍ لها ميزتا الإشهار الخارجي، والتأويل الداخلي. بمعنى انها استعاضت عن الصوت المنبري بالصوت الداخلي الذي يشتهر به المنتج أوّلًا، ومن ثم المتلقّي، لأنها قصيدة قراءة، وتأمّل أكثر منها قصيدة استماع وانفعال، وإن كانت هناك مهرجانات تشارك فيها القصائد النثرية، لكنها لا تلقى بطريقة القصيدة العمودية، بل بطريقة التنويع الصوتي بنبراتٍ تقرّب التأمّل من نبرة الصوت، إلى التعاطف الداخلي، الذي يعتمد على قوّة المفردة ودلالتها ومعناها وتعارضها وتعاكسها وانفعالها وعاطفيتها.
الرؤية الاستنطاقيَّة
إن ما يجعل الاستنطاق في الشعر لا يعتمد على ظاهرة الصوت، سواء كان خارجيًا ام داخليًا، هو كونه يعمل على إزاحة العاطفة المهيمنة في التدوين الشعري لصالح التأمّل، وخاصة وأن الشعر كما يردّد الكثير، يصارع وجوده بعد اتّساع منتجيه وسهولة معراجه للجميع، ورؤيته على أنه تعبيرٌ عن حالة الرغبة في الكتابة، وليس حالة الإبداع في التدوين الشعري. فيتحوّل الشعر من منطوقٍ إبداعي، إلى محاولةٍ لتشويه هذا المنطوق وجعله حالةً سيّالة من اللامعنى المتواصل. فالشعر إذا لم تستنطق أدواته كلّها لا يكون شعرًا، ولكن الاختلاف في عملية الاستنطاق وفي أية قصيدةٍ من قصائد الشعر يكمن هذا الاستنطاق، إذا ما تمّ الاتفاق على أنه متواجدُ بدرجاتٍ ونسبٍ متفاوتة. فإذا ما قلنا إن قصيدة النثر هي قصيدة الرؤية التي تعبّر من الداخل إلى الخارج، على العكس من قصيدة العمودي التي تعبر من الخارج إلى الداخل، والتفعيلة التي تريد الإمساك بطرفي المعادلة، فتصبح الرؤية هي الفاعلة في احتساب كمية الحصاد من بيدر الشعر. فاذا ما قلنا إن الشعر رؤيا وأنه (الطقس المقدّس الخالص الذى يجب ألا يفهم إلا بكونه شعرًا بصريًّا متعدد المستويات والتأويل، وهو في ذات الوقت خمرة تصوفية ونشوة ذاتية أولًا، ومجتمعية ثانيًا تسري وتؤثر في الوجود الأسطورى والميتافيزيقى والمادى للكائن وأشيائه المحيطة.) كما يقول ذلك فاضل السوداني في كتابه "استنطاق الصمت في الشعر والرؤيا"، ممّا يعني عملية الاستنطاق تكون واحدةً من أهم علامات قصيدة النثر، كونها قصيدة يكون منتجها رائيًا للحالة الكلية وليس الجزئية لجسد القصيدة. لأن قصيدة النثر تحتوي الأزمنة والأمكنة المتفاعلة مع الصورة الشعرية الكلية، ونقصد هنا القصيدة التي تبنى على أساس الإبداع، وليس على أساس السهولة في ترصيف الكلمات، لأن القطع سيكون واضحًا، والفراغات بين الجدران والإطلالة العامّة ستكون مليئةً بفتحاتٍ يدخل منها الغبار، فتعمي أبصار المتلقّين. وهو ما أدى إلى تراكم النقد اللاذع حولها ومحاربتها. فقصيدة النثر تُخلق من خلال عملية الاستنطاق المتفاعل ما بين الواقعة التي تصرح بها القصيدة العمودي، والواقع الذي تنطلق منه القصيدة النثرية هو التفاعل العقلي الذي يصل بالمتلقّي إلى حالة الدهشة والنشوة، وكأن المتلقّي قد أصابه وحي التدوين من خلال الإمساك بالقصديات المتعددة والتأويلات التي يجمعها النص النثري. ويؤكد السوداني في مقدّمة كتابه من أن (الشاعر الرائي لا ينتج المعنى، وإنما ينتج شعرية الرؤيا المطلقة التي تصل حد النبوءة أو الوحي الشعري الذي يتغلغل في المسامات، ويسمو بالأحاسيس والعقل لدرجة أن يكون صافيًا وديناميكيًّا حتى مصاف القدرة على الخلق مما يجعل من النشوة التخيلية والمعرفية والجمالية لذة ورؤيا بصرية، فيتم التواصل رؤيويًّا مع القارئ النموذجي المتفاعل من دون أن تُفسّر له الظواهر والحياة)
ولهذا تكون قصيدة النثر هي الأقرب إلى التوصيف بعلامات استنطاق الشعر العقلي المخيالي وليس العاطفي، وهو لا ينطبق على النصّ المحلّي فحسب، بل حتى على الشعر المترجم، فإنّه يحافظ على شكله وحتى معناه وتأويله وقصديته، كونه لا يرسم وضوحه عبر الأوزان التي حالما يتم ترجمتها تفقد علاقته بالحروف الشعريّة. ومن هنا فإنَّ الاستنطاق يكاد يكون هو العلامة الكبرى التي تجمع كلّ أنواع القصائد في بوتقة الشعر. فقصيدة النثر لا تهتم بالجزء، بل بالكلّ الذي يجمع الأجزاء، وقصيدة العمود تهتم بالاستنطاق الصوتي وقصيدة التفعيلة تهتم بالاستنطاق الفاعلي.
تطوّرات الشعر والأدب الغاضب
إنَّ الاستنطاق واحدٌ من علامات التجديد أيضا، في تحوّله من التعبير الخارجي، إلى التدوين الداخلي، وهو ما جاء بسبب التحوّل إلى محرّك الحداثة والتجريب المستمر، والذي جاء بعد التحوّلات الكبرى التي طرأت على العالم منذ الحربين العالميتين، وما يتّصل بالكولنيالية، وما حصل في الألفية الثالثة من تطوّرات على المستوى الإنساني، وأثره على الحركة الشعرية وتطوّرها، وما يمكن أن يتّصل بالأدب الغاضب الذي اجترحناه في كتابنا "الأدب الغاضب وتحوّلات النصّ/ الرواية
العربية ما بعد المتغيّرات" وقد قلنا فيه
(إن المتغيرات الكبيرة التي حصلت وتحصل في العالم أو حتى جزءٍ من العالم، هي كفيلةٌ بأحداث تغييرات أيضا في البنى الارتكازية لهذا المجتمع أو ذاك.. وأن هذه المتغيرات التي لا بد أن تكون عظيمةً أو لنقل كبيرةً وواضحةً وحاملةً لعلامات المتغيّرات، سواء كانت سلبيةً أم إيجابية، فإنها تؤثّر على الفاعلية الجمعية للمجتمع، ومن ثم الفاعلية الجمعية للثقافة وإنتاجها، على اعتبار أن الفنان بما فيه منتج النصّ هو الأسرع في التأثير والإسراع في قبول المتغيّرات وتلقّفها والتأثير فيها وتبنيها أيضا وإمساكها، لكي يعمل على تطويرها، خاصة إذا كانت هناك إمكانات كبيرة للإتيان بشيءٍ جديدٍ ما كان له أن يحصل قبل حصول المتغيّرات.) وهذا يمكن أن ينطبق على الشعر أيضا في تحوّلات الاستنطاق لماهية الصراع الذي يعيشه الإنسان والمختلف عن كلّ الصراعات، منذ بدء التكوين، بل ستكون الصراعات المستقبلية أكثر غرابةً! لذا احتاجت من الشاعر أن يكون مجرّبًا في التدوين، ويستنطق الحداثة ليتطوّر الاستنطاق بطرقٍ أخرى، تكون أكثر فاعلية في استحضار الدهشة والمقبوليَّة لدى المتلقّي.
لهذا فإنَّ الاستنطاق هو الذي يظهر المعنى، وما يريد له أن يظهر من مخبوء التجربة، خاصة وأن عملية الاستنطاق لا تقع على عاتق المنتج فقط، بل على الناقد والمتلقّي الذي يفكّر مع المنتج وليس القارئ الذي يريد التمتّع بالقراءة والكلمات. وقد ذكر الناقد الدكتور محمد درويش في مقال له "استنطاق النصّ بين المعنى وتعدد المعاني" المنشور في موقع دار اللغة والأدب العربي من أن (استنطاق، ربما وحده، هو القادر على ايصال المعنى، أو حتى المعاني المتعددة التي ينوء بها النص المعني، إلى المتلقّي) بالغم من أن المقال يتوسّع في مفهوم الاستنطاق إلى النقد والإعلام والأجناس الأدبيَّة، لكنّه أيضا يوحّد الرؤية في مفهومه، ويعطي دلالة أهمية المعطيات في الاستنطاق من أنّها تعني تعدّد المفاهيم، ومن ثمَّ تعدّد التأويلات من خلال استنطاق ما هو منتج في النص الشعري، الذي يكون أقرب إلى النصّ النثري أو قصيدة النثر، والذي يمتدّ إلى النصوص أو الأجناس، باعتبار أن النصوص المنتجة هي عملية استنطاق. ويؤكّد درويش في مقاله من أن الناقدة والفيلسوفة البلغارية جوليا كريستيفيا، ذهبت إلى القول (إن كل نص خاضع منذ البداية لتشريع خطابات أخرى تفرض عليه
عالماً ما).
إنَّ الاستنطاق لا يقوم على أساس التفاعل مع النصّ فحسب، بل يقوم بمقام المفسّر أيضا، ومقام المترجم الذاتي الذي يخلقه المتلقّي، ومقام المرايا التي يتمتّع بها النصّ لتوسيع مشاهدة الخرائط العديدة التي تختفي خلف معاني اللغة، أو التي يراد لها أن تظهر من تحت عباءة المفردة، وبالنتيجة الجملة المكوّنة لحثيثات القصيدة، وهو ما يتوفّر أكثر في قصيدة النثر.