لماذا.. كيف.. لمن؟
عباس منعثر
هذهِ الأسئلةُ، على الرّغمِ من طابعِها الكلاسيكيّ، تُمثّلُ مرتكَزَ الكتابةِ المسرحية، إذ توّجهُ النّصّ للتأملِ في دوافعِهِ وأهدافِهِ، وتمنحُ الكاتبَ قدرةً على الغوصِ في أعماقِ أعمالِهِ واستكشاف غاياتِها. ومع بساطتِها الظاهريَّة، إلا أنّها تُعتبرُ مفاتيحَ أساسيةً لفهمِ أسرارِ الكتابةِ وإثرائِهِا بالمعرفةِ الضروريّةِ بدلاً من الفوضويّةِ والعشوائيّة السائدة.
تتعددُ دوافعُ كتابةِ النّصوصِ المسرحيةِ بينَ أهدافٍ ذاتيّةٍ قصيرةِ الأجلِ وتلكَ التي تنحفرُ في الرّوحِ الإنسانيّةِ، ويأتي التعبيرُ الفنيّ الإبداعيّ عن رؤيةٍ شخصيةٍ تستهدفُ الجمهورَ بطريقةٍ فعّالةٍ وحَيّةٍ في مقدمةِ هذهِ الدّوافع. لكنْ هنا يكمنُ خطرُ الوقوعِ في فخِّ المباشرة؛ حيثُ إنَّ الطابعَ الشّفاهيّ الغالبَ على الكتابةِ المسرحيةِ قد يقودُ أحياناً إلى التسطيحِ والضحالة. ومعَ اعتقادِ الكثيرينَ بأنَّ المسرحَ هو منبر، يستحيلُ هذا الفنُّ إلى منصّةٍ تتفجّرُ فيهِ الشّخصياتُ برسائلَ تربويّةٍ وأخلاقيّةٍ ودينيّةٍ صارخة. ومما يؤسفُ لَهُ أنّ عدداً كبيراً من كتّابِ المسرحِ لم يتأملوا في سؤالِ لماذا يكتبونَ هذا الشّكلَ الحواريَّ الدراميّ؟، ما الذي يمتلكهُ النّصُّ المسرحيُّ خصوصاً كي يكونَ أداةً للتعبير؟، ما الذي يدفعني ككاتبٍ لتحويلِ فكرتي إلى نصٍّ مسرحيّ بدلاً من كتابتها كقصةٍ قصيرةٍ، رغمَ إمكانيةِ تحقيقها في شكلٍ آخر؟، معظمُ من يجيبُ على هذهِ الأسئلةِ يقترحُ إجاباتٍ متشابكةٍ مع العرضِ المسرحيّ ويخلطُها بكتابةِ النّصّ. ثمةَ سببٌ أو أسبابٌ خاصةٌ بالفنِّ الدراميِّ وأسبابٌ أخرى متعلقةٌ بالكاتبِ تدفعهُ إلى هذا الاختيار. عموماً، إنّ إحرازَ الكتابةِ لأهدافٍ ماديةٍ قد يكونُ نادراً؛ لكنّ الكتابةَ المسرحيةَ، بعرفِ الكثيرينَ، تسعى إلى إحداثِ تأثيرٍ عاطفيّ فعّال، بمتعةٍ وتسليةٍ، عن طريقِ تقديمِ نماذجَ حياتية وتجاربَ إنسانية قابلة للتجسيدِ على خشبةِ المسرح.
مسألةُ كيفيةِ الكتابةِ من المسائلِ المثيرةِ للجدل، لا يُمكن تعميمُها أو فرضُها من الخارج؛ إلا أنها تستندُ الى المؤثراتِ وسعةِ الاطلاعِ والميولِ الفرديَّةِ عند الكاتب. في معظمِ الأحيان، يفضّلُ بعضُ المؤلفينَ تجنّبَ البحثِ أو الإعداد، معتمدينَ فقط على خيالِهم ولغتِهم وتجربتِهم الشّخصية، حتى إن كانَ النصُّ يتعلّقُ بحدثٍ تاريخيّ لتجنّب الجهدِ المبذولِ واضاعةِ الوقت. هؤلاء يبررونَ ذلكَ أنّ المسرحَ مجالٌ افتراضيّ، وليسَ وقائع ثابتة. على النقيضِ، هناكَ من يكرّسُ وقتَهُ لإجراءِ بحثٍ مستفيضٍ ودراسةٍ معمقةٍ لموضوعاتِه، حتى يعرفَ موقعَهُ من نهرِ الأساليبِ المسرحيةِ العارم، فيضيفُ أو يحذفُ من منهجِهِ بوعيّ ودرايةٍ لا حسبَ الأهواءِ والرّغباتِ اللحظوية. وبينما يجدُ بعضُ الكتّابِ الإلهامَ في فكرةٍ ما، ويشعرونَ بالانبهارِ بها دونَ أن ينتبهوا إلى التكرارِ أو ضعفِ الإيقاع، يحرصُ آخرونَ على تنقيحِ نصوصِهم بعنايةٍ لتصبحَ أشبهَ بمسرحية متقنة الصنع، ويتركُ آخرونَ أعمالهم عرضةً للإهمالِ والفوضى. هناكَ كتّابٌ، محترفون، لا يدركونَ آليةَ ترتيبِ الشخصياتِ في النصوصِ، بل يحتفظون بتسلسلٍ ثابتٍ لها من بدايةِ المسرحيةِ إلى نهايتها، ويوزّعُ البعضُ الآخرُ الحوارَ بشكلٍ طبيعيّ، بحيث تتحدثُ كلُّ شخصيةٍ فقط عندما تتطلّبُ وظيفتُها ذلك. يستخدمُ بعضُ المؤلفينَ الوصفَ كبنيةٍ فنيةٍ أو كإيحاءٍ إخراجيّ، وينسونهُ، للمفارقة، حينما يشرعونَ بالدّخولِ في الأحداث. يحصلُ ذلكَ أيضاً في ما يخصّ وصف الحركةِ، والهيكلِ الدراميّ، والمفرداتِ التي يقترحُ المؤلفُ استخدامَها على المستوى الإخراجي. بمعنى أن الكثيرَ من المؤلفين، الكبار منهم حتى، يقعونَ حيارى بين جنّةِ الخشبةِ المسرحيةِ ونارِ الأدب، فتراهم تارةً يقتربون من السكربت أو السيناريو المسرحي، وتارةً أخرى يرتمونَ في أحضانِ الأدبِ الخالصِ مع عدمِ الاتزانِ في جزئياتِ الكتابةِ التي تُفرز شخصيةَ النصّ الاعتباريَّة.
ومن أخطرِ الأسئلةِ التي تبيّنُ موقعَ الكتابةِ المسرحيةِ ضمنَ المعاييرِ الأدبيّةِ هو سؤال لمن نكتبُ، فإجابتهُ تحيلُ إمّا إلى المحدوديةِ وضيقِ الأفق أو الى الأساس الفني والفلسفي المتين الذي يتأسسُ عليهِ الكاتب. بشكل عام، يكتبُ المؤلفُ المسرحيّ لاثنينِ أو ثلاثةَ جهاتٍ تقليديَّة فقط. هناك المخرجون الذين يأملُ أن يقدموا عملَهُ، وجمهورُ العرضِ الحيّ، تحتَ عينِ النّقادِ الذين ينشطونَ في الصّحفِ والمجلات. إذا كانَ المؤلفُ يتوجهُ الى هؤلاء فقط فقد وضعَ نفسَهُ في قفصٍ منخفضِ السّقف، لأنهُ بتركيزِ النّصِّ على تلبيةِ رغباتِهم، سيتقيَّدُ التجريبُ ويتجنَّبُ الكاتبُ الأفكارَ الجديدةَ أو غيرَ المألوفة ويقلّ تنوُّعُ الأعمالِ المسرحيَّة وتتعززُ القوالبُ النّمطية. فضلاً عن تجاهلِ فئاتٍ جديدةٍ من الجمهور، مثل الشّباب، ستكتفي عناصرُ الكتابةِ بتقليدِ النّجاحِ المتحققِ ويصبحُ المؤلفُ عبداً للخطواتِ التي أمّنتْ لهُ القبولَ ضمن الفئاتِ التي يكتبُ لها. سيسألُ الكاتبُ نفسَه: ما هيَ المواضيعُ والطرقُ التي تُرضي وتُبهج منظمي المهرجانات والنقاد والجمهور المختص فيقومُ بتناولِها، ولا يكلّفُ نفسَه عناءَ مطاردةِ القضايا الملحة التي ينبغي معالجتُها أو التفكير في طرقٍ فنيةٍ مُستجدةٍ وخلّاقة. تلك التوجهاتُ السّلبية ستُؤدِّي إلى إغفالِ مساحةِ الحريةِ التي يمكن أن يفتحَها النّصّ، وبدلاً من التعبيرِ عن رؤيتِهِ الشّخصية، ينسحقُ الكاتبُ تحتَ الضغطِ لتقديمِ أعمالٍ تواكبُ التوقعات، مما يؤثِّرُ على أصالةِ العمل ومستواه الإبداعي.
يُعزى ضيقُ الأفقِ الأدبيّ عند الكتّابِ المسرحيينَ إلى ثقافتِهم المحدودة، حتى بين الأكثر شهرةً، فلا يعودونَ قادرينَ على إنتاجِ أعمالٍ ذاتِ أبعادٍ تضيفُ قيمةً حقيقيَّةً إلى الأدبِ والفن. تشجّعُ البيئةُ المعاصرةُ التي تروّجُ للاستهلاكِ السريعِ والنجاحِ التجاريّ على انتشارِ الأعمالِ التافهة، فيقلُّ جذبُ الكتابةِ المبتكرة، وتتولّدُ تقاليدُ ثقافيةٌ تُثني الكتّابَ الجددَ عن تقديمِ نصوصٍ ذاتِ قيمةٍ حقيقية ما دامَ الإسفافُ يحققُ الغرض. فضلاً عن ذلك، تدفعُ ضغوطُ العصرِ، مثل الميلِ نحو المحتوياتِ السّريعةِ والحاجةِ الاقتصادية، وضمانُ وصولِ المسرحياتِ إلى أكبرِ عددٍ ممكنٍ من النّاسِ، على طبخِ النصوصِ على عجلٍ وحسبَ مزاجِ جهةِ الإنتاجِ، فيؤدّي ذلكَ إلى تراجعِ الاهتمامِ بالكتابةِ الجادةِ بشكلٍ كبير. ثمة توجهٌ بينَ المؤلفينَ إلى عدمِ الانفتاحِ على مجالاتٍ مثلَ الفلسفةِ وعلمِ النّفس، فتضعفُ قدرتُهم على تقديمِ شخصياتٍ إنسانيةٍ معقدة. كما أنّ الوعيَ المسرحيَّ السائدَ يركّزُ على النصوصِ المسرحيةِ فقط من دونَ استكشافِ مجالاتِ العلومِ المجاورة، فيُحرمَ الكاتبُ من أدواتٍ مهمةٍ بغيةَ فهمِ النفسِ البشريَّةِ والتعبيرِ عنها في النصِّ المسرحيّ. الأدهى من ذلك، لا يفقهُ بعضُ المسرحيينَ شيئاً بالمدارسِ والأساليبِ المسرحيةِ المختلفة، مما يُنتجُ جهلاً مركباً، خاصةً عندَ الجمعِ بينَ ذلكَ مع لغةٍ سطحيةٍ تفتقرُ للتجديدِ والبلاغة. لكن، رغمَ انحدارِ الأمرِ إلى الأسوأِ، هناكَ بصيصٌ من أملٍ بتحسّنِ الكتابةِ في حالِ تمَّ تعزيزُ القراءةِ العميقةِ، وتشجيعُ التجريبِ والابتكارِ، معَ التركيزِ على الجودةِ والنقدِ البنّاء.
إنّ عدم تعرّضِ الكاتبِ لهزاتٍ وجوديَّةٍ ونقديَّة يجعلهُ يشعر بالاطمئنان وإنتاجِ أعمالٍ لا تتجاوزُ حدودَ زمنِها، فتكونُ بمثابةِ انعكاسٍ لحقبةٍ معينةٍ وتنتهي بانتهاءِ تلك الحقبة. دونَ هذه الهزات، يظلُّ العملُ المسرحيُّ غيرَ قادرٍ على الانخراطِ في نقاشاتٍ عصريةٍ أو تقديمِ رؤى رصينة تتخطى الإبهارَ المؤقت. أحد أهم الأسباب لهذا الخلل هو غيابُ التأملِ العميقِ في الأسئلةِ الأساسيةِ مثلَ لماذا، وكيف، ولمن نكتب. حينها، ستتحولُ الكتابةُ إلى عمليةٍ رتيبةٍ ومكررةٍ تفتقرُ إلى التجديدِ والابتكار. هذه الأسئلةَ، بإجاباتِها المرتبِكةِ أو الحاذقة، تقودُنا إلى أسئلةٍ جديدةٍ تسعى لاستكشافِ تفاصيل ومرتكزاتِ النّصِّ المسرحي، فهي نقطةُ الانطلاقِ الحصيفةِ لفهمٍ أكثرَ عُمقاً وانفتاحاً من أجلِ إثراءِ العمليةِ الإبداعيةِ ودفعِ النّصِّ نحوَ مستوياتٍ أعلى من الإدراك.