الذكاء الاصطناعي في الأدب المزايا والإخفاقات
د. نادية هناوي
ولج الذكاء الاصطناعي على مدى العقود السبعة الماضية كل مجالات الحياة، وحقق فيها تقدما هائلا بوصفه عاملا رئيسا تارة وأداة مساعدة تارة أخرى. وكلما حقق الذكاء الاصطناعي تقدما وصارت الحاجة إليه ماسة، ازدادت صفته عاملا رئيسا وتقلصت بالتالي المجالات التي يعمل فيها كأداة مساعدة. وليس في هذا غرابة فالذكاء الاصطناعي اختراع سهّل حياة الإنسان ورفع عن كاهله أعباء كثيرة، كان القيام بها يتطلب منه مجهودات كبيرة. وقد لا يتمكن من إنجازها إلا بأزمان طويلة. ويضيق بنا المقام ونحن نعدد المهام والوظائف التي صارت بفضل الذكاء الاصطناعي ميسورة التأدية بزمن قياسي ودقة وكفاءة عاليتين.
ولا نكاد نجد اليوم مهندسا أو طبيبا أو طباخا أو بائعا يستغني في ميدان عمله عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وهي تتوزع بين صنفين: صنف اعتيادي شاع استعماله منذ عقود كأدوات مساعدة. ومن أمثلته محركات البحث google وyahoo و Bing وصنف آخر غير اعتيادي لأنه سريع التطور وبطفرات مستمرة في إمكانياته وكيفيات الإفادة منه. ولذلك يسمى بـ(التوليدي Generative AI) ويرمز إليه اختصارا ( (GenAIومن أمثلته تطبيق ChatGPT( روبوت المحادثة) ويكاد يكون اختراع هذين الصنفين متزامنا تقريبا، غير أن كثيرين يتصورون أن الصنف الأخير اختراع مستحدث وابتكار من ابتكارات الألفية الثالثة. ولعل استعمالاته التي هو فيها بالعموم عامل رئيس سبب من أسباب عدِّه مستجدا؛ إذ قد تتجاوز قدراته ما كان قد برمج له غلى ما هو غير مبرمج له.
وعلى الرغم من أن المجالات الحياتية - باستثناء مجالي الأدب والفن - تجد في الذكاء الاصطناعي التوليدي بغيتها بسبب قدراته التي تتجاوز التصنيف والتنظيم والربط والفهم والتشخيص إلى التنبؤ النصي المتقدم وبطرق معقدة، فإن الطريق أمام هذا الذكاء لا تزال طويلة كي يثبت قدرته في تحقيق حلم مضاهاة البشر في التفكير الإبداعي والشعور العاطفي. وهذه أحد مآخذ الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبسببه تتراجع التوقعات في أن يكون بديلا عن الذكاء البشري، كما تقل الطموحات في أن يكون نموذجا مختلفا تمام الاختلاف عن الذكاء الاصطناعي التقليدي.
وما يغيب عن أذهان الكثيرين هو أن فاعلية الذكاء الاصطناعي وأهميته تتوقفان على طبيعة استخدامنا له، ومدى معرفتنا بإمكاناته ومواضع قوته وضعفه ضمن المجال الذي نبغي توظيفه فيه. وإذا كان هذا المجال هو التعليم عامة والعالي خاصة، فإن التحدي يكون واضحا من ناحية التأليف والاحتواء وبناء بيئة تعليمية تستبدل التعليم الاعتيادي بالتعليم الآلي، فلا يكون الطلاب مجرد مستلمين بل يكونون بناة معرفة نشطين وواعين. هذا ما يتناوله كتاب صدر حديثا عن منشورات روتلدج بعنوان (الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم العالي) 2024 تأليف توم كولوتون وسيسيليا كا يوك تشان. وفيه يؤكدان أهمية ( أن نكون حذرين من النظر إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي على أنه حل لكل مشاكل التعليم، لأن جوهر التعليم يكمن في اللمسة الإنسانية - شرارة الفضول، ولذة الاكتشاف، ودفء التوجيه. يجب أن يعمل الذكاء الاصطناعي، في أبهى صوره، على تعزيز هذه التجارب، وليس استبدالها)، وهذا ما نراه تحصيلا موضوعيا وعلى درجة من الأهمية؛ فجاذبية الذكاء الاصطناعي، لا تمنع من التأكيد على التوازن في عملية دمجه في التعليم العالي من دون إفراط أو تفريط، وإلا فإن النتائج ستكون عكسية.
ومما يناقشه هذا الكتاب، هو أن مستقبل هذا الذكاء في مجال التعليم العالي يبشر بالكثير، من ناحية تطوير أطره وبحثه المستمر في بناء نماذج تعليمية تدمج التطبيقات التوليدية بالنماذج التعليمية. وكثيرة هي التطبيقات، وتتراوح بين المساعدة في الوظائف المعتادة والطبيعية، والإفادة في المجالات الدقيقة والمتخصصة. وهذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي مستقبلا تقانة لا يمكن الاستغناء عنها في المؤسسات التعليمية، تماما كما هو الحال اليوم في استعمالنا الأجهزة الذكية، وسيكون جزءا من الأعراف التعليمية وفي حالة تطور مستمر. ولأن فوائد هذه التقانة تتوقف على طبيعة التعامل معها، يحتاج مستخدموها إلى اكتساب مستمر للمهارات اللازمة لاستخدامها بفعالية أكبر وبطرق غير متوقعة، تدفع نحو مزيد من الشفافية والانفتاح في اكتشاف ما هو جديد. ومن دون ذلك يصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي غير ذي فائدة فيكون على حد وصف المؤلفيْن “زوبعة في فنجان”.
واستندا في تحليلاتهما إلى نظرية بلوم المعرفية، من أجل فهم قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على قراءة “ النصوص الأدبية” وتحليلها باستعمال تطبيق 4O 3,-ChatGPT، وبما يمكِّن من الوقوف على التقاطعات بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري في أداء العمليات الذهنية المتضمنة في تصنيف بلوم لمستويات المعرفة الستة، وهي (التذكر، الفهم، التطبيق، التحليل، التقييم، الإنشاء الإبداعي). وتحديد الآثار المحتملة في طرائق التعليم وتطوير المناهج التعليمية في التعليم العالي. وطرحا السؤال الآتي: إلى أي مدى يمكن لـ ChatGPT عند قراءة النصوص الأدبية أو تحليلها، أداء مستويات مختلفة من العمليات الذهنية التي تضمنها تصنيف بلوم ؟.
يمكن لـ ChatGPTأداء مجموعة متنوعة من الأفعال الذهنية عند توليد مختلف الأجناس والأنواع الأدبية، مثل الرواية والشعر والمقالة والمسرحية أو قراءتها، ويتم ذلك عبر تدريبه على التفاعل مع كمية ضخمة من النصوص الأدبية وتقييم ردود فعله حول عمقها ودقتها وملاءمتها بحسب العمليات الذهنية التي تضمنها تصنيف بلوم. فعلى مستوى “التذكر” يكون التقييم بثلاثة معايير: عمق الاستجابة، دقة الاستجابة، ملاءمة الاستجابة. وتساعد نتائج التقييم في اعتماد تطبيقات تعليمية متميزة، تتوافق كل واحدة منها مع مستويات تصنيف بلوم. والمثال التطبيقي هو قدرة ChatGPT على تحليل رواية “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز، فكانت النتيجة، إنجازه المهارات الذهنية الآتية على وفق تصنيف بلوم:
1. التذكر: القدرة على استرجاع المعلومات وحقائق محددة.
2. الفهم: القدرة على تفسير المعلومات وفهم معانيها.
3. التطبيق: القدرة على استخدام المعرفة والمفاهيم لحل المشكلات الجديدة أو لممارسة التطبيقات العملية.
4. التحليل: القدرة على تفكيك المعلومات إلى أجزاء وفهم العلاقات بينها.
5. التقييم: القدرة على اتخاذ قرارات بناءً على معايير محددة وتقييم الأداء أو المنتجات.
6. الإنشاء الإبداعي: القدرة على توليد أفكار جديدة أو إنتاج أعمال جديدة تمامًا.
ويرى المؤلفان أن بإمكان الطلاب الإفادة من تحليل الذكاء الاصطناعي التوليدي وتطويره، إذ إن هدفه تعزيز التفكير النقدي وتطوير المهارات العقلية عبر مستويات متدرجة، تسمح للمتعلمين بالتقدم من المستويات الأساسية إلى المستويات الأكثر تعقيدًا. وهنا تساءل المؤلفان: كيف يمكن للطلاب أن يعززوا قدراتهم على التفكير النقدي وهم: 1/ يرتكنون إلى الذكاء الاصطناعي عاملا رئيسا يغنيهم عن مشقة رصد الدلالات وتحليل العناصر وتشخيص الظواهر. 2/ المستوى الذي يظهره الذكاء الاصطناعي التوليدي هو مستوى محاكاتي، أي أنه لا يبتكر جديدا، وإنما هو يكرر ما هو موجود ويعيد عرضه. 3/ تقييم مهارة الذكاء الاصطناعي التوليدي على الإنشاء الإبداعي جاءت عامة، وما من مثال تطبيقي يؤكد صحتها؛ فما هي مثلا الأفكار الجديدة التي جاء بها الذكاء الاصطناعي حول رواية أوليفر تويست؟ وهل يمكن فعلا لهذا الذكاء أن يبتكر أعمالا جديدة لا تعيد صياغة هذه الرواية ؟.
أما قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي على بناء محتوى قصصي، فإن تقييم المؤلفين لها على وفق تصنيف بلوم كشف عن العمليات الذهنية الآتية:
1. يستدعي الأحداث ويدقق في التفاصيل ويقتبس مباشرة من النصوص الأدبية أو يقدم إشارات عند الضرورة.
2. يحدد العناصر الأدبية الأساسية مثل الحبكة والشخصيات والإعداد والموضوع، مظهرا فهماً لكيفية مساهمة هذه العناصر في بناء المعنى العام للنص.
3. يلخص النصوص الأدبية بدقة وباختصار، مظهراً فهماً للأحداث والأفكار الرئيسة، ويتجنب التفاصيل الزائدة مركزا على النقاط الرئيسة للنص.
4. يعرف المصطلحات الأدبية بدقة ويطبقها بشكل مناسب ضمن سياق التحليل الأدبي، مستشعرا التقانات الأدبية وتأثيرها في النص.
5. يظهر معرفة مرجعية بالمؤلف ويربط السياق التاريخي والثقافي بالأفكار الموجودة في النص.
6. يقدم تفسيرات مباشرة للنصوص الأدبية، مركزاً على المعاني السطحية والرموز الواضحة ويقدم شروحات مدعمة بأدلة من النص.
ويؤكد المؤلفان كولوتون وتشان، أن هذه التقييمات تختلف بناءً على الأهداف التعليمية الخاصة وطبيعة النص الأدبي الذي نرغب في تقييمه. وبالعموم فإن ما يقوم به الذكاء الاصطناعي التوليدي من عمليات في بناء محتوى قصصي، هو أنه مجرد أداة مساعدة للطلاب والكتّاب ليس غير. وما يورده المؤلفان من تقييمات ومعايير للعمليات الذهنية للذكاء الاصطناعي التوليدي، تبقى في جزء كبير منها في حدود البحث التعليمي الذي غايته إفهام الطلاب، وليس ابتداع أو ابتكار أدب قصصي اصطناعي يضاهي المخيلة البشرية، والدليل هو بساطة البناء الفني وغلبة البعد التوجيهي عليه، وعدم قدرته على الارتقاء بالتقانات أو المفاهيم إلى مستوى ابتداعي غير مسبوق. ويشدد المؤلفان على حقيقة أن الذكاء الاصطناعي رغم نقاط القوة في توظيفه، فإنه ليس مثاليًا، ومن المتوقع أنه (لن يكون قادرًا على التنبؤ بالمستقبل بشكل أفضل من البشر حول ما سيقع من الأحداث في العالم مستقبلا، وهذا أمر مهم يجب أن نتذكره. يجب ألا نثق في الذكاء الاصطناعي أكثر من كونه صديقا موثوقا به، وليس شخصا خبيرًا نثق به ثقة عمياء. نحن بحاجة إلى وعينا وصقل مهارات تفكيرنا النقدي لاتخاذ قرارات مستنيرة. ومع كل ذلك، سننتظر ونراقب باهتمام، لمعرفة ما إذا كانت هذه التوقعات ستتحقق، وما إذا كانت قد تم التنبؤ بها من خلال جهودنا التكهنية الخاصة، أو ربما من خلال قدرات التنبؤ الخاصة بالذكاء الاصطناعي التوليدي.