الفن من منظور جورج باتاي
عزالدين بوركة
ليست فلسفة الفنّ في فكر جورج باتاي (1897 - 1962) مجرد تأملات عابرة حول الجمال أو الإبداع؛ بل هي فلسفة تعكس رؤية عميقة وصادمة للوجود الإنساني. باتاي، الذي عُرف بنقده الحاد للمفاهيم السائدة، يؤسس لفلسفة تتجاوز الحدود التقليدية للعقلانية، إذ يرى الفن مساحةً للتفاعل بين المقدس والمدنس، الحياة والموت، والتضحية والحرية المطلقة.
• فن التجاوز والفوضى
يبدأ باتاي بنقد الفلسفة التقليدية التي تُعلي من شأن العقل والمنطق على حساب الجوانب الأكثر غموضًا وغريزية في الإنسان. يرى أن الفن ليس مجرد ترف جمالي أو نشاط ثقافي، بل هو مجال يتجلى فيه الصراع الداخلي للإنسان مع ذاته ومع العالم. في هذا السياق، يقول: إن “الفن هو الرفض العميق للأوامر المفروضة على الحياة. إنه الحرية النهائية التي تجعل الحياة تجربة لا يمكن التحكم بها ولا يمكن تحجيمها”. إذ يربط باتاي الفن بمفهوم “التجاوز” (transgression)، إذ يرى أن الفن الحقيقي هو الذي يكسر الحدود المفروضة من المجتمع والدين والقيم الأخلاقية. هذا المفهوم يُظهر التأثير العميق لفكر نيتشه في فلسفة باتاي، إذ يشترك كل من الفيلسوفيْن في رفضهما للمفاهيم السائدة للخير والشر، والجمال والقبح، ويريان في الفن وسيلة لتحرير الذات من هذه القيود. في هذا السياق، يقول صاحب “القدسي”: “كل فن حقيقي هو فن فوضوي في جوهره، [إنه] فن يتجاوز حدود العقلانية”.
ولم يقتصر نقد باتاي على الفن التقليدي، بل يتجاوز ذلك إلى الفن المعاصر في زمنه، إذ يرى في الحركات الفنية مثل الدادا والسريالية، تعبيرًا حقيقيًا عن الحرية الفنية. هذه الحركات، التي كسرت قواعد الفن الكلاسيكي، كانت بالنسبة لباتاي ميدانًا للإبداع الذي يتجاوز كل الحدود. في هذا السياق، يصف الفن الحديث بأنه الثورة المستمرة التي تعيد تشكيل العالم من خلال الفوضى.
بالإضافة إلى ذلك، يطرح باتاي فكرة “السيادة” (sovereignty) كشرط أساسي للفن. هذه السيادة هي حرية مطلقة يتمتع بها الفنان عند تجاوزه للحدود المألوفة. إذ يصف هذه الحالة بأنها نوع من “الموت الرمزي”، إذ يتعين على الفنان أن يضحي بجزء من ذاته أو من قيمه الشخصية لإنتاج عمل فني يتحدى الثابت والمألوف. هنا يمكننا أن نفهم كيف أن التضحية في نظر باتاي ليست مجرد فقدان، بل هي عملية خلق وتجديد. يقول في هذا الصدد: “السيادة هي الحالة التي يصبح فيها الإنسان سيدًا على نفسه عبر الفن، عندما يتجاوز حدود الحياة العادية ويدخل في عالم مليء بالمخاطر والإبداع”.
• فن الإنسان الأول
وتتجلى رؤية باتاي للفن بشكل واضح في اهتمامه بالفن البدائي وفن الكهوف، إذ يرى في هذه الأعمال القديمة تجسيدًا للاتصال العميق بين الإنسان والعالم. هذه الفنون كانت بالنسبة لباتاي تعبيرًا عن لحظة تجاوزية يتقاطع فيها المقدس مع المدنس، حيث يعيش الفنان تجربة حقيقية لا يمكن تفسيرها من خلال المعايير العقلانية السائدة. فقد أتيحت لصاحب كتاب “التجربة الداخلية”، فرصة زيارة مغارة لاسكو الشهيرة، هناك سيتعرف عن كثب على فن الإنسان الأول، ويكتب نصه الهام حول الفن الأولي: “فن التصوير في عصر ما قبل التاريخ – لاسكو أو مولد الفن”. وهو ما سيدفعه للقول بأنه بفضل “معجزة” التمثيل [الفن] يستطيع الإنسان أن يصبح إنسانًا بالكامل. إذ باكتشافه التمثيل، أدرك إنسان لاسكو أنه لا يخضع للنظام الطبيعي، على العكس من ذلك، يصبح إنسان الإمكانيات، القادر على الخلق. ويرتبط هذا الأخير عند باتاي، بالضرورة، بمفهوم اللعب.. فالفن لا ينفصل أبدا عن اللعب، بوصفه شرطا من شروطه. بل إن الفن لا يكتمل إلا باللعب.. وهذا الأخير استكمال للأول. لهذا يعد اللعب عودة للحالة الأولى التي تتمظهر عبر الفن. مما يجعل الأخير بالنسبة لباتاي، أكثر أشكال اللعب إثارة للإعجاب.
ومع ذلك، فإن إنسان لاسكو هو الذي عرف على وجه التحديد كيفية “منح اللعب الدوام والجانب الرائع للعمل الفني”. غير أن الطبيعة لا تتوقف أبدًا عن إغراء إنسان لاسكو، لكن الأخير يعارضها في المقابل بحركة عفوية متمردة يسميها باتاي “العبقرية” أو “العفوية”، التي تعمل على التغلب على المذهب الطبيعي.
وهكذا، وبفضل هذه العفوية، لا يكتفي الإنسان الأول بتقليد الطبيعة بضمير حي، بل يخضعها لمخيلته وعفويته. يُبين لنا باتاي على وجه التحديد، أن موكب الحيوانات الهائل والبرية الممثل على الجدران، لا ينشأ من “التقليد الأمين والطبيعي للمظهر”، بل من “مخطط الشكل الواضح والعفوي”. وهنا يكمن الاندفاع الفني الإنساني الموجود في دواخلنا بشكل فطري، والمكتسب من الإنسان العبقري الأول. وقد رأى باتاي أن هذه الأشكال القديمة من التعبير الفني كانت تجسد الاتصال العميق بين الإنسان والعالم الطبيعي، وكانت تحمل دلالات روحية عميقة تتجاوز الاستخدام الأداتي للفن في المجتمعات الحديثة.
• إيروسية الفن وقدسيته
وتعدّ الإيروسية هي أيضًا جزءا أساسيا من فلسفة باتاي حول الفن. إذ يرى أن الفن الإيروسي هو التعبير الأكثر صدقًا عن طبيعة الإنسان، إذ يتجلى فيه الصراع بين الرغبة والموت. يقول باتاي: “في الإيروسية، مثلما في الفن، هناك لحظة تتجاوز فيها الحياة ذاتها وتتحرر من قيودها، لتصبح تجربة مطلقة للوجود”.
ولا تخرج الإيروسية إذن، عن ركائز نظريته الفكرية، عن فهمه للأدب والفن، إذ بالنسبة له، هي تجربة السمو والتحرر من القيود الاجتماعية. ويرى فيها شكلاً من أشكال التصوف الذي يسمح للإنسان بتحقيق نوع من النشوة الروحية. تم تطوير هذا المنظور في عمله الأساس “الإيروسية “L’Érotisme (1957)، حيث يجادل بأن النشوة ترتبط ارتباطًا جوهريًا بمفهوم المقدس والبحث عن الحقيقة. فهي وسيلة لعيش التجربة الإنسانية بشكل مكثف وتجاوز الحدود التي يفرضها المجتمع. فهو يرى أنها شكل من أشكال المقاومة ضد عقلانية ومنطق الأنظمة الاجتماعية، وطريقة لإعادة الاتصال بالجوانب الأعمق والأكثر غريزية للحالة الإنسانية؛ إذ يقول: “من يُجرّب أن يتجاهل أو يسيء فهمَ النشوة لهو كائنٌ ناقصٌ، تنقصه فكرة التحليل”.
تشير هذه المقاربة المثيرة للفن، إلى أن الجمال والتجربة الجمالية لا يوجدان فقط في الانسجام والنظام، ولكن أيضًا في الانتشاء والإيروسي، المرتبط بالتمزق والتضحية والانتهاك. إذ يقول: “وإن لم يكن الانتهاك أساسا فليس بين التضحية وفعل الحبّ مشتركٌ”.
ويرتبط الأمر عنده أيضا بما يسميه بـ”جماليات المقدس”، التي تعدّ إحدى الأفكار المركزية في فكر باتاي. إذ يستكشف في كتاباته كيف يمكن للفن أن يتجاوز الحدود العادية للتجربة الإنسانية، لتحقيق شكل من أشكال النقاء أو الوحي المقدس. إذ “يظهر وراء الحقيقة أن الفن، وقد عجز عن التعبير أيّا كان، فهو يبلغه من الخارج، مقدسا بلا شكّ - حيث استعملت الرومانسية احتمالات التجدّد- يظهر وراء الحقيقة أن الفن لم يعد يعيش إن لم يملك القوّة على بلوغ اللحظة المقدسة من مصادره”. والفن وفقًا لباتاي، هو وسيلة يمكن للفرد من خلالها التواصل مع بُعد أوسع وأعمق للوجود، وهو البعد الذي غالبًا ما يتسم بانتهاك الأعراف الاجتماعية والأخلاقية. ويقول جورج باتاي “إن الإنسان يتطوّر وفي نفسه ما يشبه اليقين بأن انتهاك الحدود الطبيعية لم يبدأ بالمعنى الصحيح إلاّ في اللحظة التي ظهر فيها الفن أوّل ما ظهر”، وهو يربط قوله هذا بنظرته حول الفن البدائي الذي شرعه في كتابه حول مغارة لاسكو. ذلك هو فن “لاسكو”، يعقب موريس بلانشو على فكرة باتاي، إذ “يأتي إلينا عبر الأحقاب والعصور بيسر وضوحه، وإشراق بيانه، فيطالعنا بحيويته الفياضة التي تحرّك تلك القطعان من الحيوان، وتعيد إلى صورها حياته الموقوتة قوية متدفقة حتى ليخيل إلينا أننا بإزاء أصدق متعة للإنسان، متعة الفرح الذي يغمرنا ونحن نكشف عن روعة الفن”.
هذا وقد تأثر باتاي بمفهوم “المستحيل”، أي ذلك الذي يقع خارج حدود التجربة الإنسانية العادية، والذي لا يمكن فهمه أو تفسيره بشكل كامل. في مقالته “القسمة الملعونة” (1949)، يستكشف فكرة أن الفن، مثل الأشكال الأخرى من النشاط البشري، يمكن أن يكون طريقًا إلى شكل من أشكال المعرفة المتعالية. وهكذا يصبح الفن مساحة حيث يتم تعليق حدود المجتمع والأخلاق مؤقتًا، مما يسمح بتجربة غير الواقعية والمقدسة، وبالتالي تحرير الفن من معاقل اللاهوتي، حيث نتصالح مع الإيروسي والقبيح والمدنس ونعيد الاعتبار للجسدي. فيصير الفن توكيدا للسلبي، بوصف السلب طاقة دافعة للأمام والتطور والخلق، إنه عكس الإيجاب الذي يولد الطاعة والخضوع والخنوع.. يكتب باتاي “لا الشعر أو الضحك أو النشوة استجابة؛ بل مجالٌ للاحتمالات التي تنتمي إليها، مما يحدّد النشاط المرتبط بتوكيدات الفكر السلبي. [...] الفاعلية السلبية مقررة بحريةٍ كأنها (عن وعي أو لا)”.
• فن للتحرر
تعتبر فلسفة باتاي الفنية إذن، دعوة للتحرر من القيود التقليدية التي تحكم التعبير الإبداعي. هو يرى أن الفن يجب أن يكون فضاءً لتفجير الطاقات المكبوتة والكشف عن الجوانب الأكثر غموضًا وتعقيدًا في الحياة الإنسانية. الفن هو الفضاء الذي يمكن فيه للإنسان أن يعيش تجربة تتجاوز حدود الزمان والمكان، تجربة تغمرها الحسية والجنون والتضحية.
يمكن القول إن فلسفة الفن عند جورج باتاي هي فلسفة تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والعالم. من خلال الفن، يدعو باتاي الإنسان إلى تجاوز ذاته، إلى اختبار حدود الوجود، إلى التضحية بالمألوف من أجل اكتشاف الغامض والممنوع. وهذا الفهم الجذري للفن يجعله جزءًا لا يتجزأ من تجربة الوجود، ويمنحه دورًا محوريًا في تشكيل وعي الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله. باتاي، بذلك، لا يقدم فقط فلسفة للفن، بل فلسفة للحياة ذاتها، حيث يتداخل الفن مع الوجود ليصبحا واحدًا.