كيف ستكون جامعاتنا من دون العلوم الإنسانيَّة

ثقافة 2024/09/11
...




صفاء ذياب






أدت التغيّرات في مفاهيم سوق العمل منذ أكثر من عشر سنوات، فضلاً عن التطوّرات التقنية، إلى إعادة النظر في التخصّصات العلمية عموماً، والإنسانية على وجه الخصوص. فعلى الرغم من أن معهداً مثل (معهد النفط) في العراق، كان ما يقبل العام 2003 يقبل الطلبة الذي لا تقبلهم الكليات والمعاهد الأخرى، بسبب تدنّي معدّلاتهم في الإعدادية، أصبح هذا المعهد يوازي المجموعة الطبية في القبول بسبب ضمان تعيين خريجيه في وزارة النفط التي تضمن راتباً مرتفعاً حتى للعمال فيها.

الأمر نفسه بالنسبة لكليات علوم الحاسبات والنظم وغيرهما، بسبب اقبال المواطنين على الشركات والمحال التي تعمل فيها، فخريج هذه الكليات، حتى وإن لم يحصل على وظيفة حكومية، فبإمكانه افتتاح محل أو شركة صغيرة، تدر عليه أرباحاً كبيرة... فضلاً عن المجموعة الطبية التي يحصل خريجوها على وظيفة مباشرة من دون البحث عن عمل آخر.

هذه التحوّلات في سوق العمل جعلت أغلب الأهالي يرفضون دخول أبنائهم في الكليات الإنسانية، مثل التربية والآداب، بتخصصاتهما كلّهما، فخريجو هذه الكليات لا يحصلون على عمل حكومي إلا في حال خاصة، ما عدا ما حصل في السنتين الأخيرتين بتعيين الحكومة العراقية آلاف الخريجين، لكن هذا يمثل استثناءً، فما حصل من الصعب تكراره.. وبالأهم أنَّ رواتب خريجي هذه الكليات ضئيلة، حتى في حال تعيينهم في المدارس أو الدوائر القريبة من تخصصهم.

العراق ليس استثناء في هذا التفكير تجاه الكليات الإنسانية، فهناك دول طالبت بإيقاف القبول في كليات العلوم الإنسانية لعدم حاجة المجتمع لها في الوقت الراهن. فيشير الأستاذ الدكتور زيدان عبد الكافي كفافي في جامعة اليرموك بالأردن، أنَّه بعد انحسار عدد الحصص الصفيّة في تخصّصات العلوم الإنسانية والاجتماعية وحتَّى اللغتين العربية والإنكليزية في التعليم العام الرسمي، بسبب الاهتمام المتزايد بتدريس الحاسوب وما يتعلّق به من علوم، لم تعد المدارس بحاجة لعدد كبير من المعلّمين في هذه التخصّصات. وحتَّى وإن درِست فليس من الضروري أن يدّرس معلّم حاصل على درجته الجامعية في المادة نفسها. قد يكون هناك معلم رياضة ونصابه التدريسي 24 ساعة، على سبيل المثال، وينقصه عدد من الساعات فيطلب منه أن يملأ جدوله بحصص في التاريخ أو الجغرافيا.

ويحدد الأكاديميان فرح القواسمي ومحجوب زويري أنَّه في السنوات الأخيرة، زعمت العديد من الجامعات في أنحاء أوروبا وآسيا كلّها أنَّ كلّيات العلوم الإنسانية والاجتماعية لم تعد تلبّي الاحتياجات الأكاديمية أو المجتمعية، وفي كثير من الحالات، لم تبذل هذه الكليات جهداً لتعديل نهجها في نتائجها، وأبحاثها، أو نهج التدريس.

وبحسبهما تركز هذه الادعاءات على الكلية ذاتها والمناهج الجامدة غير المتطوّرة. ومع ذلك، فإنَّها تغفل عن عامل حيوي آخر، ألا وهو واجب الأكاديميين في هذا المجال نحو النهوض بمسؤولية إحياء وتجديد النهج. وقد يرتبط الأكاديميون في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية بالتهميش الحالي للمجال من خلال عدم تقديم موضوعاتهم بطريقة أكثر جاذبية وعملية وفائدة للمجتمع. وتفتقر الدراسات الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى جانبين مهمين، وهما: إثارة الفضول، والتطبيق العملي للمجال المطروح. مؤكّدان أنَّ الفخ الذي تقع فيه العلوم الإنسانية والاجتماعية هو الافتقار إلى الابتكار في البحث، وبدلاً من ذلك، وضع معظم الجهد على الجانب التاريخي لهذا العلم، دون نسج الدراسات من مخرجات مجتمع اليوم. ومن خلال القيام بذلك، وضع الأكاديميون نهاية للحاجة إلى مزيد من الدراسة، وضيّقوا نطاق الدراسة لينحصر في الماضي بدلاً من الحاضر والمستقبل.

هذه النقاشات وغيرها جعلنا نتساءل: هل يمكن تخيّل الجامعات بدون العلوم الإنسانية؟


علوم أصيلة

يؤكد الفنان التشكيلي الدكتور كاظم نوير؛ أنَّه لا يمكن التفكير بهذا الموضوع لأنَّه ليس منطقيّاً ويحمل بعداً عدميّاً وتدميريّاً لأسس التعليم والتربية وبناء الدولة، فالعلوم الانسانية هي أساس منطقي وفلسفي لبناء الفرد والدول والمجتمعات، فكيف يتمُّ وضع الأسس التي يبنى عليها التعليم بشكل عام؟ هذه الأسس التي تبنى على وفق استراتيجية الدولة التي تحرّك مفاصلها كلّها، وعلى أساسها توجد الدول وتبنى هويّتها وخصوصيتها واستقلالها، والعلوم الأخرى هي جزء مكمّل لتنفيذ تلك الاستراتيجية الوجودية لهذا البلد. وهذا يتطلّب فهماً تاريخياً وفلسفياً ونفسياً وتربوياً على أساسه تبنى الأهداف الفرعية في مجالات العلوم كافة، بل وعلى أساسه تتعامل الدولة حتَّى مع الدول الأخرى سياسيّاً واقتصادياً وثقافيّاً. من ذلك، فإنَّ العلوم الإنسانية ليست ترفاً أو سوقاً للعمل فحسب، بل هي أساس وجود الأفراد والمجتمعات والدول. من يقود الدول عموماً هم المفكّرون وصنّاع السياسات، وهؤلاء يأتون من تلك التخصّصات الإنسانية، وهؤلاء القادة مهما كانوا لا بدَّ أن يكونوا متخصّصين أو مطّلعين على التخصّصات الإنسانية، مثل الفلسفة والمنطق والتاريخ والتربية وعلم النفس والأدب... لهذا، فإنَّ محاولة محاربة التخصّصات الإنسانية معناه محاربة العقول والقادة الذين يوصلون الفرد والمجتمع والدولة إلى الوجود والتميّز والسعادة التي تتأتّى من التوافق بين الإنسان ونفسه، بين الإنسان وتاريخه، بين الإنسان ومجتمعه، بين الإنسان والآخر، والدليل على ذلك أنَّ العلوم التي تدرس هذا وتحقّق ذلك التوافق هي العلوم الإنسانية وحدها، ومحاولة إضعاف تلك العلوم إضعاف لذلك الانسجام والتوافق الإنساني والاجتماعي.


الإنسان فاعلاً

ويعتقد الكاتب والمترجم أمير دوشي أنَّ السمة المميّزة للعلوم الإنسانية هي السمة التاريخية التي تعين وتكشف دور الإنسان كفاعل مؤثّر ومتأثّر: من دون ذلك تصبح المعارف قيماً ومفاهيم تجريدية توظّف بالشكل الذي يسعى إليه الباحث بعيداً عن الضرورة والسياق الاجتماعي للمعرفة. والسمة التاريخية تعني القدرة على الفرز والتصنيف، أي القدرة على النقد. وتلك هي المهارة التي توفّرها الدراسات الجامعية في حقل الإنسانيات. والنقد كما تذهب المناهج الحديثة “هو الحركة التي تمنح بها الذات نفسها الحق في مساءلة تأثير الحقيقة على السلطة ومساءلة السلطة وخطاباتها عن الحقيقة”. مساءلة تأثير السلطة على الحقيقة يعني فحص كيفية تشكيل السلطة لما يُعدُّ صحيحاً أو خاطئاً.

ويضيف دوشي: وما هي المعرفة التي تحظى بالامتياز، وكيف تخدم هذه المعرفة مصالح معيّنة؟ ومساءلة السلطة من خلال خطابات الحقيقة يتضمّن تحليل كيفية استخدام ادعاءات الحقيقة لممارسة السلطة، وكيف تُستخدم خطابات معيّنة لتبرير التفاوتات الاجتماعية أو للحفاظ على الوضع الراهن؟ ومن خلال الانخراط في هذه العملية الحاسمة، تصبح الذات قادرة على فحص وقراءة الحاضر وخلق إمكانيات جديدة. وتتطلّب المقتربات المتعدّدة التخصّصات مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان واللغويات، أساساً قوياً في العلوم الإنسانية لفهم وتحليل الظواهر المعقّدة، بل حتَّى في العلوم التطبيقية مثل الهندسة والطب والتكنولوجيا تلعب العوامل البشرية دوراً حاسماً في تصميم المنتجات والخدمات. وهنالك ضرورة ومعايير أخلاقية لتوفّر أطرٍ للابتكار واتخاذ القرار المسؤول.

حوار مشترك

الدكتور محمد فاضل المشلب يشير إلى أنَّ هذه الدعوات أصداء فردية تعلو حيناً، وتخبو في حين آخر. منها النظرة المعتقدة بأنَّ التخصّص الإنساني هو تخصّص بسيط محدود التفكير، لا يخرج عن كونه حشواً للموضوعات وتفعيلاً للذاكرة من أجل خلق أنموذج كلاسيكي من الطلبة ينتمي بدراسته لأزمنة غابرة، أزمنة كان التدريس يجري بين المسجد والكتاتيب وظلال الأشجار في الطرقات. هكذا تهيمن هذه الرؤية لدى بعض التخصّصات العلمية، ومن جانب فخريجو الأقسام العلمية تترسّخ لديهم نظرة استعلائية بوصفهم منتمين لتخصّصات علمية حديثة تواكب التحديثات الجديدة على مستوى العالم، وتكاد تجمعهم لغة بحثية واحدة.

كذلك انغلاق الأقسام الإنسانية على الانفتاح البحثي والتفاعل مع لغة العصر العلمي بدرجة أساسية والفكري بدرجة أقل عزّز من تلك الدعوات.

ويستعيدُ المشلب مقولة رومان ياكوبسن: “الخلافات الثقافية تولّد الأفكار” إذن يفترض أن يساهم اختلاف الأقسام في الكليات إلى خلق مناخٍ بحثي رصين، ينتجُ حواراً مشتركاً يقومُ على مواكبة أكاديميةِ الجامعات الكبرى في العالم. 

فكما للتخصّص العلمي مداره البحثي فللتخصّص الإنساني كذلك اشتغاله ومناهجه ورؤاه البحثية الكلاسيكية منها، ومنها المواكب- بفضل الترجمة- للمناهج الفكريّة الحديثة أو المعاصرة.


كشّاف الإنسانية

ويختتم الشاعر والكاتب الدكتور قيس ياسين حديثنا، متسائلاً: هل من صالح الإنسانية (الإنسان) والمجتمعات والحضارات، اختفاء العلوم الإنسانية بتشكيلاتها المتنوّعة التي يدور محورها الأساسي حول الإنسان والمجتمعات وقيمها وتوجّهاتها وتطلّعاتها وأمانيها ورغباتها وتشوّقها لحياة أفضل في العالم؟

هل بمقدور البشرية أن تتخلّى عن ميراث العلوم الإنسانية التي انصبت جهودها منذ نشأتها في القرن التاسع عشر بعد أن انعتقت من أمها الفلسفة واستقلت في فروع لها تقاليدها ومناهجها وآلياتها ومدارسها وعلمائها وفي اجتهادها وبحثها الدؤوب في تسليط الجهد المبذول كلّه في دراسة الإنسان دراسة علمية في تفاعله مع الآخرين ومع بيئته الطبيعية والاجتماعية. 

من هنا نرى أنَّ أهمّية العلوم الإنسانية أصبحت أثقل مسؤولية، في مواجهة التحديات الكبرى التي برزت الحاجة إلى تنشيط هذا العلوم لتعمل بنشاط وحيوية لا يكلّان من أجل الدفاع عن الإنسان والمجتمعات وقيمها وتوجهاتها وتطلعاتها. أمام هذا السيل الدافق الهلامي من القيم والممارسات التي تفتقد لمرتكز الانتماء المشترك بين الإنسانية في مختلف المجالات. إنَّنا أمام تحدٍّ وخطر جدّي. إذا ما فقدت العلوم الإنسانية روح المبادرة واستسلمت أو تراجعت عن مواقعها التي حصلت عليها بجهود كبيرة منذ بروزها في أقل تقدير تاريخي منذ عصر النهضة والأنوار.

ولكن، لنرى واقع حال العلوم الإنسانية في محاضنها الأصلية، (أوروبا/ الغرب). هل كفّت عن المنازلة وأخلت الساحة للتقنية والعلوم التطبيقية، وانكفأت في الجامعات وسواها.. أبداً. إنَّها في ابتكار دائم وزخم إبداعي لا يمل وتجديد في المناهج والآليات الفكرية والمنهجية والتجريب والمغامرة، مغامرة خوض الرهان إلى نهاية الشوط.

ويبين ياسين أنَّ العلوم الإنسانية تمثّل إضافة هائلة إلى الرصيد العلمي، فقد عملت على مدار عقود وقطعت أشواطاً طويلة وبذلت جهوداً مضاعفة في تحديد موضوعاتها وتعريف ظواهرها وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها، وأرست خلال هذا الوقت القصير نسبياً مقارنة بالحقب التاريخية السابقة، خزيناً معرفيّاً كبيراً.

لقد سمحت لنا العلوم الإنسانية بالنظر إلى طرق مختلفة في النظر والتعبير عن ثقافتنا الإنسانية، وأصبحنا قادرين على رؤية وجه التشابه والاختلاف، ووسّعت معرفتنا البشرية في فهم ما يربطنا ببعضنا البعض، وما يميّزنا عن بعضنا البعض، وأمدّتنا برؤى رفيعة المستوى، ومناهج وآليات قابلة للاختبار والتجريب والتطبيق في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

إذن، هل نقدر أن نغفل دور العلوم الإنسانية التي ساعدت المجتمعات على اكتشاف نفسها من خلال دراسة ظواهرها الثقافة وجذورها التاريخية، كما مساهمتها من خلال تطوير المهارات الأساسية التي من خلالها حدثت القفرة الكبيرة في القرن التاسع عشر والعشرين.. الخ.

وهذا كلّه حدث بفضل العلوم الإنسانية وإرشاداتها وجهودها في وضع البشرية على السكّة الصحيحة للتقدّم والابتكار. فمجمل العلوم التطبيقية والتقنية والذكاء الاصطناعي الراهن، كان بفضلها، وفضلاً عن ذلك أنَّها ما زالت تدرس وتفكّك تداعيات هذا التقدّم على مستقبل البشرية.

ولعلَّ من بين أهم أهداف العلوم الإنسانية، أنَّها أنتجت لنا إنساناً له الدراية والقدرة للتملّص والتشكيك ومساءلة اليقينيات والوثوقيات. وهذا بحدِّ ذاته هدف سامٍ، يحملنا إلى آفاق جديدة، وعدم التحجّر. ويدفعنا إلى التقدّم للأمام.

ربَّما من هنا يكون الرد عن سؤال. هل للعلوم الإنسانية مستقبل في راهن اليوم والمستقبل. وكأنَّ الإنسان نزع أسلحته كلّها التي بذل الجهد المضني في انتزاعها من الطبيعة وفي علاقته مع نفسه والآخر ليخرج بمساحة إنسانية مشتركة تجمعه مع غيره. ربَّما هناك أجندات تعمل على هذا الهدف الخطير. ولكنَّ هناك أجندات أخرى تعمل في الضد منه. وسلاحها هو العلوم الإنسانية لأنَّها الكشّاف في ليل اللامعنى.