الوطن كهويَّة.. إدوارد سعيد المفكّر الحدودي المنظاري

ثقافة 2024/09/22
...

  رادهاك ريشنان
  ترجمة: نجاح الجبيلي

"المفكر المنظاري" العبارة البليغة التي يستخدمها عبدول ر. جان محمدi  لوصف الطبيعة الخاصة لفكر إدوارد سعيد، وهي في الواقع تنصف الأنموذج "السعيدي" المراوغ وغير النمطي.

السؤال الأهم الذي يتعلّق بسعيد هو: بالنظر إلى موقعه كرسول وحساسيته، إلى أين ينتمي، وماذا أو مَنْ يُمثّل؟، هل هو رسول أحادي الاتجاه أم ثنائي؟، على الرغم من أن الرسل بحكم تعريفهم ينتمون إلى بلدهم الأصلي ويمثلونه "وهذا من المحتمل أن يوفر لهم نوعاً من التماسك الوجودي"، إلا أنّهم لا يمكن إلا أن يتأثروا بشكل جوهري بالسياق الذي يجدون أنفسهم فيه كرسل، في البلد المُضيّف إذ هم ضيوف. لكي يكون فعّالاً، يجب أن يحمل صوت الرسول رسالة من وطنه، وأن يكون قادراً على تقديمها في سياق غريب بطريقة مقنعة.
وبعبارة أخرى، فإنَّ الرسول، مثل هرمسii ، هو أيضاً رسول يحتاج إلى أن يكون نشطاً بلاغيًا لمسائل الاستقبال، وخصائص ثقافة الاستماع. ربما يجب أن يتم تمسيد الرسالة، وصقلها بلاغيًا، من دون أي انتهاك أساسي للقصد الأصلي. لكن هذا الوضع الرسولي في حد ذاته لا يستحضر صورة المرآة ولا صورة الحدود؛ هناك شيء أكثر ضمن سياق "سعيد".
سعيد هو مثال مهم للرسول ذي الاتجاهين: فهو أمريكي من أصل فلسطيني يعيش في الشتات. وهذا هو توجهه الأنطولوجي. وهو من خلال التدريب المهني أكاديمي منغمس بعمق في الأدب والثقافة والنظرية الغربيَّة. وهذا ما يجعله غربيًا، من الناحية المعرفيّة. وهنا يكمن المنعطف المزدوج: فهو أمريكي فلسطيني، كمواطن في الشتات، عليه أن يقوم بواجب مزدوج، وهو الدفاع عن فلسطين هنا في أمريكا، والسعي إلى تحويل المنظور الأمريكي ليكون داعمًا ومتفهمًا للفلسطينيين الذين يعيشون هناك. وعلى المستوى المتخصص، فهو ليس عربيّاً متعصّباً، بل حداثي مقارن غربي يسعى إلى استغلال سعة الاطلاع الغريبة في تناغم مع غير الغرب. في الواقع، وبطريقة غريبة، فإنّ نقطة دخول سعيد إلى غير الغرب هي عن طريق التمثيلات الاستشراقية. ومن ثمّ، فإن موقف سعيد الذاتي يقاوم كل الإحداثيات الطبيعيَّة التي تحكم سياسة التمثيل الفردي، ويكون إحساسه بالانتماء "حدوديًا" ومتمردًا على سياسة التسمية.
"إنّ المثقف الحدودي،" وفقًا لجان محمد، "على الرغم من أنه ربما يكون/ تكون على دراية بثقافتين على حد سواء، إلا أنه يجد نفسه غير قادر أو غير راغب في أن يكون في موطنه" في هذه المجتمعات. وهو محصور بين العديد من الثقافات أو المجموعات، ولا يعدُّ أي منها المثقف المنظاري متمكناً أو منتجاً بما فيه الكفاية، إذ يخضع الثقافات للتدقيق التحليلي بدلاً من الجمع بينها؛ ويستخدم الفضاء الثقافي البيني الخاص به كنقطة نظر يمكن من خلالها تحديد، ضمنيًا أو صراحة، الإمكانيات الطوباويّة الأخرى ضمنياً أو ظاهريّاً.  
تثير مقالة جان محمد مسألة الحدود على مستويين: الوجودي والمعرفي. هدف سعيد، كما يشير جان محمد، هو البحث عن بدائل، عن طرق "أخرى" للعيش ومعرفة ما هو موجود. المدينة الفاضلة. من وجهة نظر سعيد، فإنّ ما هو مرغوب فيه ليس مجرد تجاور هويتين منفصلتين ومتصلتين بحدود، على سبيل المثال، مزج تكس مكس "تكساس- مكسيك"، ولكن شيئًا أبعد من ذلك وطوباويًا لا يمكن اختزاله إلى أي نوع من سياسات الهوية أو إلى صيغة التشريطiii .
وبطبيعة الحال، بدأت الحدود تعمل بالنسبة لسعيد باعتبارها استعارة للتفكير المضطرب والمتقلّب الذي لن يتخلى عن الأراضي الحدوديَّة باسم الأمن، أو الاستيعاب، أو التطبيع. وبدلاً من ذلك، يجب تنمية عقليّة الحدود بشكل صارم لتجنب عدد من المزالق: الجوهرانيَّة، والتجانس الطائش، وسياسات الهوية، على سبيل المثال لا الحصر. ويتحول موقع الحدود أيضاً إلى مختبر مثالي حيث يمكن طرح العلاقة بين الأنا والنحن كسؤال دائم. يجب أن يكون الفرد/ المثقف الحدودي في حالة من التشريط المزمن التي لا يمكن حله أو تجميعه في انتماء أحادي التكافؤ. إن ولاء الحدود هو لذاتها، لكن بما أن الحدود هي نمط من "البينية"iv، فعليها أن تقوم بعملها الحاسم استجابةً للهويتين اللتين تشكلانها كحدود. بالنسبة لسعيد الذي كان يتساءل دائماً عن فكرة الوطن باعتباره هوية ومركزاً، تصبح الحدود موقعاً مثالياً يمكن من خلاله توجيه النقد في أي من الاتجاهين. في الواقع، بالنسبة لسعيد، تعمل الحدود أقرب ما تكون إلى المنظور النقي قدر الإمكان، باعتبارها استعارة مفهوميَّة لنمط من الكائن الفكري الذي يمكنه الاستمتاع بالدنيويَّةv  من دون العالم.
ما هو محتوى الوعي النقدي عند سعيد؟، هل هو مجرد يعكس (كما يوحي المصطلح منظار) الغرب إلى نفسه، ولكن بطريقة تعزل الغرب عن اعترافه المعياري بذاته؟، هل سعيد هو المخرّب، الداخل كالدخيل؟، إذا كان أسلوبه هو أسلوب يتجه من الداخل إلى الخارج، وإذا كان أسلوبه هو أسلوب المطلع من الداخل إلى الخارج، فهل هو بالقدر نفسه دخيل من الداخل في مواجهة غير الغرب أيضاً؟، هل ينعكس العالم غير الغربي بالنسبة له من زاوية مقلقة ومضطربة؟، ومثل شريط موبيوسvi  الشهير الذي لا يسمح بمفاهيم مستقرة عن الداخل والخارج، فإنَّ موقع سعيد الفكري يفلت أيضاً من التنسيق السهل. ونظرًا لتوجهه الطباقيvii بشكل عام، يصبح موقعه أكثر مراوغة. إنَّه ليس مواطنًا سياديًا يحمل بطاقة في أي من العالمين، ومن خلال عمله النقدي على الحدود، كسر سعيد الفروق بين الأبعاد داخل التاريخ وفيما بين التاريخ. الإحساس الأساسي بجمهوره ليس الشرق أو الغرب، أو أمريكا أو القومية العربية: فهو أولاً وقبل كل شيء ناقد لا تتمثل أخلاقياته الدافعة في الوصول إلى هوية قانونية تخلص نفسها من المشكلات الحدودية، بل تبقى مفتوحة إلى الأبد. العلاقة بين التضامن/ الانتماء والنقد. الأمر المثير للاهتمام بشأن مثقفي الحدود هو أنهم لا يستطيعون أن يكونوا أصواتًا "مُمثَلة" أو "مُمثِّلة" لأن الحدود هي نوع من الظواهر المتنقلة التي تطرح سؤال التمثيل ذاته.
الحدود ليست مساحات سياديَّة (بدلاً من ذلك، فهي "مغايرة" بمعنى ميشيل فوكو للمصطلح) مثل الدول القومية التي تتحدث بصوت واحد؛ وأهل الحدود يتكاثرون ويتشكلون بشكل غير متجانس، ومن ثم لا يمكن وضعهم تحت محور "أنا- نحن" واحد ثابت. الحدود هي الموقع المثالي حيث يمكن للمثقف أن ينغمس في رغبته في تحقيق "المعارضة" الدائمة كسياسة خاصة به وجمهوره، وإدراك الشرط الوجودي في الالتزام الفكري والعكس صحيح. سيكون ذلك أقرب إلى أجندة سعيد. بالنسبة لسعيد، لا يحتاج المثقف ولا الفرد إلى الاستقرار في قلب أي هوية أو مجتمع أو نظام سيادي. يجب أن يكون عنوان مذكرات سعيد "خارج المكان" أمراً منطقياً: على سبيل المثال، الحدود هي أنموذج مثالي لمكان خارج المكان، من الناحية المعيارية.

___________
I مفكر كيني ولد ونشأ في كينيا وتلقى تعليمه في الولايات المتحدة ، وقام بالتدريس في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي منذ عام 1983. وتشمل منشوراته: الجماليات المانوية: سياسة الأدب في أفريقيا المستعمرة. طبيعة وسياق خطاب الأقلية؛ موضوع الموت المحدود: آركيولوجيا الموت لريتشارد رايت؛. كان المحرر المؤسس لمجلة النقد الثقافي، وهي مجلة صممت في البداية لتوفير مكان لتنظير الخطابات الأدبية والثقافية للأقليات الأمريكية وما بعد الاستعمارية وللنظرية الثقافية المعاصرة.
II   في أساطير الاغريق  هو رسول الآلهة.
 III  التشريط هو الارتباط المجازي أو الحرفي بين هويتين ثقافيتين أو اجتماعيتين مختلفتين، غالبًا من خلال استخدام "شَرطة" في مصطلحات مثل "أمريكي - أفريقي" أو "أمريكي - مكسيكي". تسلط هذه الشَرطة الضوء على ازدواجية الهوية، حيث يتنقل الفرد أو المجموعة بين ثقافات متعددة، مما يؤدي غالبًا إلى مناقشات حول الانتماء أو الاستبعاد أو المزج بين هذه الثقافات.
IV تشير البينية إلى حالة الوجود بين موقفين أو هويات أو ظروف مختلفة أو أكثر، وغالبًا دون الانتماء الكامل إلى أي منها. إنه مفهوم تمت مناقشته بشكل متكرر في النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار ونظرية الهوية لوصف الأفراد أو المجموعات الذين يتنقلون في مساحات ثقافية أو اجتماعية أو جغرافية متعددة في وقت واحد.
V في النقد الثقافي والأدبي، قد تشير الدنيوية إلى انشغال الشخصية أو المجتمع بالأمور الدنيوية - مثل الثروة والسلطة والوضع الاجتماعي - على حساب القيم الأخلاقية أو الروحية.
VI شريط موبيوس، والذي يُطلق عليه أيضاً الأسطوانة الملتوية، هو سطح أحادي الجانب بلا حدود. يبدو وكأنه حلقة لا نهاية لها.
VII  نسبة إلى مصطلح القراءة الطباقية الذي نحته إدوارد سعيد من الموسيقى ويعني القراءة متعددة الأصوات.

المصدر: كتاب "A said Dictionary" [قاموس سعيد] رادهاك ريشنان.