فاضل ضامد
يتمتع فن الفوتوغراف في العراق بتاريخ غني يمتدُّ لعقود عدة. في البداية، استُخدم التصوير الفوتوغرافي لأغراض توثيقيَّة وإعلاميَّة، ثم تطور ليصبح وسيلة فنية تعبر عن الجوانب الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع.
عانى فن الفوتوغراف في العراق من تحديات كبيرة خلال العقود الماضية بسبب الحروب والاضطرابات السياسيّة. رغم ذلك، شهدت السنوات الأخيرة نهضة جديدة بفضل التكنولوجيا الرقميَّة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مما أتاح للفنانين عرض أعمالهم على نطاق واسع.
ويسهم فن الفوتوغراف في توثيق التغيرات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، ويُعدُّ وسيلة قويَّة لنقل القصص والتجارب الشخصيَّة. يساعد التصوير الفوتوغرافي في بناء الوعي وإبراز جمال وتنوع الحياة العراقيَّة.
العثور على صورة مكانيَّة لها أثر كبير في نفوسنا نحن المتلقين، هو عملية تستغرق زمناً لالتقاطها والاحتفاظ بها كأثر لأي مصور بارع. هكذا يضعنا الفنان المصور رحيم السيلاوي في زاوية التأمّل عند مشاهدة لحظة أو أداء لكائن غير موثق أمام أبصارنا، أو مكان مهم ربما حدث فيه ما يستوجب توثيقه.
السيلاوي مصور بارع، يمتلك القدرة على اتخاذ القرار ليضغط على زر التصوير فتولد الصورة. كثيرٌ من أعمال الفنان المصور - ولي معها تاريخ كبير في المتابعة - هي الصور التعبيريَّة البورتريه لأشخاص مجهولين، وربما يعملون في مكان معروف أو غير معروف، والانتماء واضح لهؤلاء من خلال تفاصيل وجوههم وتعابيرهم الدقيقة.
ربما تستطيع أن تعرف من خلال الوجه ليس الانتماء فقط، بل الحالة التي يعيشها الموديل. فكربلاء يرتادها كثيرٌ من الزائرين، منهم الهندي والباكستاني والإيراني وكذلك العربي والأجنبي، وبذلك يحصد الفنان المصور لقطاته بتفاصيل تحكي تاريخ انتماء هؤلاء وتبيح لنا من خلال تفاصيل وتجاعيد وجوههم تأثير الحياة والواقع وما تركه على ملامحهم.
ليس فقط البورتريه، بل هناك الأماكن الكربلائيَّة، ومنها الطبيعة التي سحرته كثيراً حتى وضعها تحت مجهره البيتي ليعدّل الصور كفنان محترف ويُغيّر ما لم يعجبه حتى تكتمل اللوحة المصورة. ربما اختزل الكثير من البيانات التي وردت للكاميرا والتي لم تكن ذات أهمية في تعريف المشهد. الطبيعة أينما حلّت كاميرته تلتهم تلك المناظر الطبيعيَّة، فمدينة كربلاء مليئة بالبساتين والنخيل، وهي ثيمة رامزة للمدينة المسوّرة بأشجار البرتقال والفاكهة وغيرها من الثمار. لا تترك كاميرته الصحراء والتلال وحتى البحيرات المتناثرة.
السيلاوي يتعامل مع الضوء وكأنّه بيته ليؤثثه برغبة جادة عبر برامج مرتبطة بمكياج الصورة. تجده مرّة ينزل من شباك أو من السماء، ربما من الشمس أو القمر أو مصباح، ليدخل على زحام كضوءٍ فيضيءُ على شكل بقعة لإبراز الحركة والأداء المختار، وإظهار المعالم من خلال اللون، وهي تقنيّة بارعة تُحسب للمصور.
التصوير هو أثرٌ يبقى لمدى من الزمن ليعطينا فكرة عن تلك الأيّام التي غادرت، ويُعد ذاكرة مهمّة. وهو جزءٌ أساسيٌّ من التوثيقات مثل الفيديو «السينما» والكتابة، وله قيمة أثريَّة أيضاً.
السيلاوي خرج إلى الواقع اليومي ومشاهداته المؤثرة، فما بين الأسواق وزحام الناس كانت كاميرته ترصد ما وراء الحدث. الشعور بوجود التغريب «Alienation” للمكان هو ذكاء كاختيار للواقعة، لتبقى لقطة معلقة في الذهن. فما بين اللوحة المرسومة والصورة الفوتوغرافية ليس إلّا وقت. ربما نحصل على صورة بثانية واحدة، لكن العمل الفني يستغرق وقتاً طويلاً، والمشتركات هي المشاعر والفكرة والتكوين التي نحتاجها لبناء هذين الشكلين من
الخلق.
وله في التراث والبيئة سجل كبير من المشتركات في التوثيق والجمال لإحداث حركة شكليَّة جديدة للفنان المصور. أما كربلاء، فلها مكانٌ آخر في عدّة الفنان وجعبته بين الكاميرا وعينه الراصدة. تجده في المراقد المطهرة يلتقط اللحظات الحزينة والمؤلمة على وجوه الناس، ويربط بين المكان والحركة، وله جولات مهمة بين الزائرين والمواكب، وله أيضاً لقطات بارعة في اليوم العاشر (ركضة طويريج).
وقال الفنان والمصور خليل الطبار، إنَّ “السيلاوي فوتوغرافي محترف يعيش جغرافية المكان في أعماله. حمل كاميرته مسؤولية التجوال والبحث في تفاصيل مشاهدها لينجز أعمالاً ناجحة في حضورها الفني في المحافل العالميَّة والمحليَّة. يحرص على إنتاج مضمون أكثر قوة وتأثير على المتلقي ليترك أسئلة استفهاميَّة عن مهمة المصور. فهو يجيد لغة الاختزال والإيجاز لتعميق فكرته ليخرج معادلة جماليَّة لتركيبة لونيَّة اعتمدها في أعماله الأخيرة والتي كتب منها قصيدة مفجعة ورسم بالنور لوحة تذكرنا بأعمال المصور الإيطالي (أكيرمان)”.
أما الفنان المخرج علي زامل، فقال إنَّ “السيلاوي فنان يرسم بالضوء لوحاته الواقعيَّة كمن يسرد حلماً جميلاً رآهُ في المنام ليحيل اللحظة الزمنيَّة إلى لوحة شاعريَّة مليئة باللون والجمال”.
وقد قال الفنان الفوتوغرافي والمحكم الدولي عبدالرضا عناد إنَّ “العلاقة الجدليَّة بين الضوء والفن هي علاقة متبادلة، استطاع السيلاوي أن يفك رموزها ويجعل من الفن غاية لإدراك الضوء، ويرتقي بالضوء ليضعه في صياغات فنيَّة تعبر عن مهارته الإبداعيَّة في خلق مشاهد فريدة ومتميزة من خلال إحساسه العالي وثقافته البصريَّة المتميزة. في كل أعماله، استطاع أن يمنح الظلال دوراً مهماً وبعداً آخر في خلق العمق والتباين في الصورة وشعوراً بالحركة والحيويَّة”.
وفي صورة “الأطفال بعجلاتهم” نرى أن نوثق السعادة هو منتهى الإبداع، وأن نستلهم اللحظة من تاريخ فقرنا سننصف حياتنا. ما زالت هذه العجلة بيد الفتاة تدور، ورحى الفقر تأخذ من تاريخنا مأخذاً بسبب السلطات التي مرّت على البلد، رغم أنَّ هذا البلد ثري وعميق بحضارته وتاريخه. هذه الصورة اللوحة تعبر كثيراً عن تسلسل حياتنا، فنحن من كنا ندور مع هذه العجلات فرحين ولا نعرف أن هناك ألعاباً أخرى أكثر أناقة وجمالاً.